تواصل معنا

آخر الأخبار

طنجة الدولية.. يوما ما سيعود السائح ولن يجد شيئاً

قبل أزيد من 23 سنة كانت مدينة بلباو الواقعة في شمال اسبانيا تئن تحت وطأة تفكيك قطاعي الصلب و بناء السفن، الذي تسبب في تشريد آلاف العمال و إغراق الإقليم في احتقان اجتماعي، زادت من قتامته حينذاك المواجهات مع تنظيم إيتا الانفصالي.
في غمرة تلك الاضطرابات فاجأت بلدية بلباو المواطنين بمشروع مثير للجدل لم يلقى وقتها ترحيبا واسعا في أوساط الرأي العام، الذي شكك في جدوى تخصيص أزيد من 160 مليون يورو لإنشاء متحف غريب الهندسة و المضمون.
بعد ما يناهز ربع قرن عن تلك الأحداث يستحيل مصادفة ساكن من إقليم الباسك ينتقد هذا المشروع و لا يعترف بأفضال “الغوغنهايم” على المدينة.
من عاصمة رمادية و وسخة إلى حاضرة تعج بالفنادق و المطاعم المصنفة التي تستقبل كل سنة أزيد من مليون زائر، هكذا ساهم المتحف في إخراج بلباو من ليلها الداكن إلى صباح مشرق و واعد.
في هذا التحول عبر كثيرة جعلت كبرى مدن إقليم الباسك مزارا ضروريا لمئات المسئولين
حول العالم، الذين يبحثون في بلديتها عن سر هذا النجاح.
و إذا كان المتحف هو العنوان الأبرز لقصة النجاح هذه، فثمة عناصر و شخوص أخرى لا تقل أهمية ساهمت باجتهادها و ببعد نظرها في تحقيق هذه المعجزة الاقتصادية و الاجتماعية.
أستحضر هنا الراحل إنياكي أثكونا، العمدة القومي الذي حظي بثناء الخصوم قبل الحلفاء، و هو إنجاز شبه مستحيل في إقليم ينخره صراع سياسي تسبب في الماضي في مسلسل عنف أودى بحياة مئات الأبرياء.
هي إذن مثل هذه النماذج الاستثنائية التي وجب معانقتها في لحظات الشدة لإبقاء الأمل حيا و استيراد بعض حكمها للخروج من النفق، فجائحة كورونا بكل الضرر الذي ألحقته بمدينتنا ليست سوى همسة الريح الأخيرة التي أسقطت ورقة التوت عن مجموعة من الملفات المفصلية التي من شأنها تحديد مستقبل المواطنين في قادم السنين.
أسعدني كما أسعد كل غيور عن حاضرته و وطنه حجم التكافل و التضامن مع مبادرة التي أطلقها الأخوين يوسف و عبد اللطيف شبعة لانقاذ تجار المدينة القديمة و سكانها من الكساد الذي أفرزه إغلاق الحدود، و آمل أن يتفاعل سكان طنجة الكرماء مع مبادرة 15 و 16 يناير التي نتوسم فيها خيرا و نتمنى أن تتكرر كلما استدعت الضرورة ذلك.
لكن الارتكان إلى الوضع الراهن و الاعتقاد بأن الحياة الطبيعية ستعود بعد فتح الحدود فيه كثير من قصر النظر و إهدار للفرص التي تفتحها الأزمات.
مثل كل المدن عاشت و تعيش طنجة تحولات اجتماعية يفرضها الاقتصاد و تغير النسيج الانتاجي.
في البدايات كانت المدينة القديمة مقاما وحيدا لسكان جاؤوا إليها من كل حدب و صوب، فكان طبيعيا أن يختزل كل شيء هناك، بدءا بالأنشطة التجارية الأساسية مرورا بالحرف التقليدية و قطاعات أخرى كالقطاع المصرفي الذي ترك بصمة واضحة في سوسيولوجيا المدينة.
ثم توسعت المدينة و هاجر الميسورون المكان لتنطلق لعبة الكراسي الموسيقية حيث يقوم اللاعبون بالدوران حول الكراسي و عندما يقوم المتحكم بالأنشودة بإيقافها فجائياً، لابد أن يتسابق اللاعبون للجلوس على الكراسي.
في هذه اللعبة كانت الأنشودة الأولى سياحية قحة مستفيدة من إيقاعات “الهيبز” و بريق مدينتنا في مخيلة من كانوا يبحثون عن “الحرية” في أزقة كاتماندو أحيانًا و في باب القصبة أحيانًا أخرى.
في هذا الوهج كان هناك أيضا عامل الكتابات العالمية التي تفننت في رسم مدينة أسطورية يسكنها الجاسوس و النازي الفار من بلاده و الأرستقراطية المجنونة و مئات الشخصيات الأخرى الموثقة في روايات استمالت آلاف الزوار الباحثين عن طلاسم تلك الحقبة.
لكن تلك الأنشودة توقفت في التسعينات عندما اعتقدت السياحة العالمية أن بغداد تجاور طنجة و يبدو أننا لم ندرك دروسها و فضلنا الاقتيات على فتاتها بينما كانت مدن متوسطية أخرى تجدد خطابها لتتخلى عن ثنائية البحر و الشمس.
و ها نحن الآن نستمتع ببياض جدران المدينة القديمة بينما نبحث عن مضمون فعال للحفاظ على شريان الحياة في أحشائها.
و لأن الأوان لا يفوت مطلقا لإصلاح الأمور ثمة حاجة لنقاش عمومي يروم الإجابة على السؤال المحوري: ماذا نريد من المدينة القديمة؟
إذا سلمنا بأن قيمة الانسان و محوريته لابد أن تكون رأس أولويات أي نموذج تنموي فالإجابة الأولى تبدو واضحة. أي سعي للإصلاح و النماء يرتهن إلى إشراك أفراد منظومة مجتمعية معقدة اهتزت مرات و مرات على وقع قرارات اقتصادية لم تأخذ بعين الاعتبار ضرورة تأهيلها لمواجهة التغيرات.
لسنا نصبو إلى المدينة الفاضلة لكن المدينة مازالت و ستظل نسقا اجتماعيا في داخله تفاعلات و اعتماد متبادل بين السكان.
و في تركيبة مدينتنا القديمة ثمة التاجر و المهني و الحرفي الذي يحافظ على تراث مهدد و على الذاكرة. لكل هؤلاء وجب الشكر و الرعاية الخاصة لأنهم قاطرة اقتصادية قادرة على تحقيق إقلاع أقوى و نمو يعجز بعض الإخوة عن تقدير إمكانياته.
يبقى أنه في سنوات الإهمال تمكنت أيادي المضاربة من الاستحواذ على مجموعة من المباني بأسعار بخسة لإشعالها بعد ذلك. في جهلنا خلنا أن العيش في المدينة القديمة يتنافى مع رغد العيش في المدينة العصرية و أن مجيء الأجنبي البوهيمي مرادف انتعاشة اقتصادية لم تتحقق إلى حدود الساعة. اسألوا سكان مراكش و أصيلة و الصويرة.
في مجموعة من المدن الأوروبية ثمة عشرات المبادرات التي تهدف إلى بعث الروح في المدن التراثية ليس فقط عبر السياحة و إنما أيضا عبر استقطاب خيرة الشباب للاستثمار فيها و العيش بين جدرانها. فضاءات للإبداع و الابتكار، إقامات جامعية للباحثين و مقرات العمل المشترك، هكذا تستيقظ بعض المدن القديمة من سباتها لتخلق نشاطا تجاريا حيويا يعود بالنفع على الجميع.
سيعود السائح الأجنبي قريبا، ربما قبل أن نجيب على السؤال الثاني؛ أي سائح نريد؟
ذلك الذي يبحث عن تذكار و صورة في افريقيا، أو ذلك الذي يسأل عن مقام “ماتيس” في مدينتنا و عن فضاءات غويتيسولو و يوميات المواجهة بين التيارين الوطني و الجمهوري الاسبانيين في السوق الداخلي.
سيعود السائح الأجنبي و نحن لم نفلح بعد في عرض جمال مدينتنا في الدار البيضاء و الرباط و فاس عبر حملات تشارك فيها كل المؤسسات المحلية الوصية و القطاع الخاص.
سيعود السائح و لن يجد أي مجلة احترافية محلية متخصصة تنصحه بالذهاب الى هذا المطعم أو الاستمتاع بتلك المسرحية أو زيارة ذلك المتحف.
سيعود السائح و كلنا أمل ألا تكون الضربة القادمة أكثر إيلامًا من الوجع الحالي.

تابعنا على الفيسبوك