مجتمع
زواج القاصرات.. انتزاع حياة لفتيات غريرات

كلّ منا من مكانه أو منظوره، تفنَّن وأبدع في تعريف زواج القاصر في انتقاده، استنكاره بل حتّى تجريمه. القاصر هي تلك الطفلة الغريرة، الَّتِي اتَّفق الكثير ممَّن يجرم تزويجها، على أنّه انتهاك حقّ وانتزاع حياة، بيد أنَّ طرفًا آخر، ومن وجهة نظر قانونية، مسطرية، سوسيوثقافية نجده يدافع وبقوّة عن ضرورة تزويج القاصر، مُدليًا بدلوه وحجته في الموضوع، رغم يقينه أنَّ زواج القاصر لم يعد -ولم يكن سلفًا- يُشكّل استثناءً أو عددًا يمكن حصره في أذونات أو ملفات معدودة تعقيدًا، يمكن أن تكون ناتجة عن قناعات فردية وترسبات فكرية ثقافيّة مجتمعية ساهمت في تفاقمها.
فتزويج الفتاة القاصر صيغ مفهومه، وَفْق مباركة تصوّر مجتمعي سائد، أيّدت فيه القوام الفتية والمؤهلات الفيزيولوجية للقاصر، وهَذَا اعتُبر -كافيًا- وَفْق رؤية أُفرغت من فحواها، حصرت مُبرّرات تزويجها في مدى قدرتها على تحمل أعباء الزواج ومسؤولياته، حدَّدته في نسبة حظها العالية في الإنجاب. فجمالها، وقوتها البدنية، أنوثتها صغر سنها لا فائدة منه إن لم تُسخّره خدمةً لزوجها، وأطفالها ومنزلها
جلسات الإنصات والاستماع المخصصة للقاصر
ليس بالأعداد البسيطة الَّتِي استقبلت، تأملت، لاحظت وبأسلوب الصديقة الأمينة تواصلت، ولنقاش المساعدة الاجتماعية البشوشة وظّفت، وللإرساء وزرع الثقة هدفت. كنت دائمًا ما أحرص في جلسات الاستماع والانصات خاصة منها المتعلقة – بزواج القاصرات- أن يسودها –استشعار الراحة والأمان- من طرف القاصر وكذا باقي أطراف الملف، وكنت محظوظةً كوني ألمس جليًا أثر حرصي هَذَا، فقد كان يظهر جليًا استحسان القاصر، من خلال ابتسامتها الخجولة، وتقدّمها للجلوس بعفوية وتلقائية أمامي، وقد كان أغلبهن يتراوح سنهن ما بين الخمس عشرة سنة إلى سن السبع عشرة سنة وأشهر.
وقتٌ وافرٌ كنت أخصصه لجلسات استماعي واستقبالي القاصر، فضاء يمكن وصفه بالملائم والمريح، كنت استقبل به القاصر، فمن عادتي كنت لا أتصفّح معطيات ومرفقات الملف أو محضر الجلسة غير اسم القاصر الشخصي الَّذِي كنت أناديها به، ومخبرة والديها أنَّ بداية استقبالي واستماعي سيشمل ابنتهما القاصر.
صدقًا جميعهن كُن جميلات، يحرصن كل الحرص أن يكون مظهرهن هندامهن مرتبًا وجميلًا، يبتسمن ويشوب محياهن الخجل وبعض الارتباك الَّذِي تترجمه حركات أناملهن ونظراتهن، الَّتِي تحيد جانبًا لتجنب إجابة عن سؤال ما أحست بالإحراج عند سماعه، محاولة إقناعي أنَّها فهمت مغزى السؤال، لتجدها تُردّد كلماتٍ مُتقطعةً غير مسترسلة، وعبارات تكبرها سنًا لقنت لها عن ظهر قلب عن طريق والدتها وشقيقاتها وكذا صديقاتها اللائي خضنا تجربة الزواج أو سلكنا مسطرة تزويج القاصر قبلها، لتجدها حتّى بعد مرور دقائق ما زالت تحاول إقناعي وهي تبذل مجهودًا مضنيًا لتغيير عباراتها عن طريق انتقالها من كلمة لأخرى، لأتدخل بسلاسةٍ وهدوءٍ، وأُغيّر من صيغة سؤالي لتجدها انطلقت من جديد في حوارها ونقاشها أكثر ثقةً وقناعةً، ومدافعة عن رغبتها في هَذَا الزواج، حبّها وشغفها بالخاطب، وأنّه لا يوجد أيّ إكراه من طرف والديها أو أقربائها، وأن رغبة ارتباطها بالخاطب نابعةٌ عن إرادتها مدعمة قولها بعبارة- إنني أريد حقا الزواج.
توافدت الحالات باختلاف ظروفها وتنوّعت أسبابها ودوافعها، فمنها من بُنيت وُكيفت على ركائز وأسس، اعتبرها المُشرّع، وَفْق وجهة نظره، دعامة قوية ولا حرج في أن تكون سببًا قويًا لمنح الإذن بتزويج القاصر.
الإجراءات المسطرية لسلوك مسطرة زواج القاصر
إنَّ موضوع زواج القاصرات -ونظرًا لأهميته- بات يُشكّل حقلًا علميًا -أكاديميًّا وميدانيًّا- للدراسة والاشتغال، وإذا كانت المادة (20) من مدونة الأسرة لم تحدد السن الدنيا لإمكانية الإذن بزواج القاصر أو رفضه، فلا يمكن أن تتبلور إلا بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي وإلى القاصر نفسه. وبالاعتماد كذلك على خبرة طبّية تثبت قدرة القاصر على تحمل أعباء الحياة الزوجية أو بحث اجتماعي منجز من طرف المساعد الاجتماعي، ويُبرز مدى وجاهة الأسباب الداعية لتزويج القاصر أو مدى وجود مصلحة للقاصر في ذلك الارتباط.
وتتوجب الإشارة إلى أنَّ مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر، غير قابل لأي طعن، ويسند اختصاص البتّ في زواج القاصر إلى قاضي الأسرة المكلف بالزواج، ونجد المدونة قد قيدته بمجموعة من التدابير والضمانات الإجرائية المسطرية خلال سريان الملف منها:
- إسناد اختصاص البتّ فيه إلى قاضي الأسرة المكلف بالزواج.
- الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه.
- ضرورة موافقة النائب الشرعي، وذلك بتوقيعه الطلب وكذا حضوره بمعية القاصر
- الاستعانة بخبرة طبية وكذلك إجراء بحث اجتماعي.
المادة 20 من مدونة الأسرة تفيد:
- ضرورة الاستعانة بالخبرة الطبية أو إجراء بحث اجتماعي أو اللجوء للإجرائين معا.
- إصدار مقرر معلل توضح فيه المصلحة، الأسباب والدوافع المبررة لمنح الإذن بالزواج من عدمه.
مجهودات رئاسة النيابة العامة للحد من زواج القاصر
في إطار تفعيل الأدوار الأساسية المنوطة برئاسة النيابة العامة، وإيلاء أهمية كبيرة للنهوض بوضعية الطفل وجعله ضمن أولوياتها في سياساتها الجنائية، وقد حرصت على تنفيذها وتتبعها، وقد استمدّت مرجعيتها في هَذَا الموضوع أساسًا من مدونة الأسرة -المادة الثالثة- الَّتِي اعتبرت النيابة العامة طرفًا أصليًا في قضايا الأسرة، لذا عملت رئاسة النيابة العامة على اتّخاذ كلّ التدابير اللازمة لحماية الأطفال وضمان حقوقهم، انسجامًا مع ما تنص عليه المواثيق الدولية ذات الصلة، وقد عملت رئاسة النيابة العامة على إصدار دوريات في الموضوع وهي كالآتي:
– دورية رقم 17 س بتاريخ 14 مارس 2018 حول قضايا الأسرة.
– دورية رقم 20 س بتاريخ 29 مارس 2018 حول زواج القاصر.
– دورية رقم 2 س بتاريخ 21 يناير 2020 حول تفعيل دور النيابة العامة في مسطرة زواج القاصر.
هَذَا بالإضافة إلى مجموعة من الإجراءات المسطرية، الَّتِي أوكلتها لجناح النيابة العامة بصفتها طرفًا أصليًا في جميع قضايا الأسرة، ومن أهمها:
- تقديم ملتمس بإنجاز لخبرات الطبيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الضرورية للتأكد من قدرة القاصر على تحمل مسؤولية الزواج.
- الحرص على التأكّد بالنسبة للمواطنين المغاربة المقيمين بالخارج الراغبين في الحصول على الإذن بأنّ الدولة المقيمين بها تقبل عقود الزواج دون سن الأهلية.
- الحرص على تقديم ملتمسات بالاستماع للقاصر على انفراد للتأكد من إرادتها ورغبتها في الزواج دون أي ضغط أو إكراه مضمر.
- تقديم ملتمسات بإجراءات خبرة طبّية للتأكد من القدرة الجسمانية والنفسية للقاصر على الزواج، وكذا العمل على التفاعل بالجدية المطلوبة في ملفات الإذن بزواج القاصر، بتقديم ملتمسات تهدف إلى تحقيق مصلحة القاصر واعتماد نماذج مُعدّة مسبقًا، وعدم التردد في التماس الرفض كلما كانت مصلحة القاصر تستدعي ذلك.
- عدم التردد في التماس إجراء بحث اجتماعي للتأكد من الظروف المحيطة بطلب الإذن بالزواج ومدى ملائمته لمصلحته القاصر.
- إدراج زواج القاصرين ضمن أولويات خطة عمل خلايا التكفل بالنساء والأطفال وإشراك جميع الفاعلين في اتّخاذ الاجراءات الكفيلة بالمحافظة على المصلحة الفضلى للقاصر.
التوصيات الَّتِي يمكن اعتمادها للتخفيف والحد من زواج القاصرات
- وضع خطط وبرامج شاملة تعنى بالنهوض بوضعية الطفل القاصر مع خلق مساحات للنقاش في الفضاء العام، وكذا إشراك الأسر من أجل تحسسيهم بإيجابيات تأخير الزواج قصد ضمان حصول الفتيات على التعليم ومحاربة الهدر المدرسي في صفوفهن.
- منح النيابة العامة الحقّ في استئناف مقرر الإذن بتزويج القاصر، وكل من له مصلحة في تحديد جهة الاستئناف واجله وتوقيف إبرام الزواج إلى غاية صيرورته انتهائيًا.
- افتراض التعسف في إنهاء العلاقة الزوجية إلى أن يثبت العكس متى وقع على قاصر داخل أجل خمس سنوات من زواجها.
- تدخّل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لتجنيد المرشدات والمرشدين الدينيين لدورهم الكبير في التأثير على الرأي العام الشعبي عبر الخطاب الوسطي المعتدل الَّذِي يسلط الضوء على الأضرار المحتملة للزواج المبكر.
- التنسيق الفاعل والفعلي مع جمعيات المجتمع المدني العاملة في الميدان لتساهم في توعية المجتمع، وكذا الفتيات القاصرات بالعواقب الناجمة عن تزويج القاصرات.
- تخصيص برامج في الإعلام العمومي المرئيّ والمسموع وكذا المكتوب، لمناقشة وتناول موضوع تزويج القاصرات وتسليط الضوء على الأضرار الوخيمة الصحية والنفسية وكذا الاجتماعية الَّتِي تلحق القاصر المتزوجة مبكرًا.
- إعطاء الأولوية في تنزيل ورش النموذج التنموي إلى إلغاء الفوارق المجالية ودعم التنمية الجهوية لما ينتج عنه ولوج الفتاة خصوصًا، والمرأة القروية عمومًا، إلى حقوقها كالتعليم، التكوين والتأهيل الَّذِي من شأنه ضمان حياة أفضل لها.
- توفير الموارد المالية والدعم الكافي للبرامج الرامية إلى التصدي لممارسة تزويج القاصرين.
- اعتماد برامج لتدريب الفاعلين في الميدان من الأطر المكلفين والعاملين في الحقل القضائي، الاجتماعي أو النفسي، وكذا الصحي لتوفير تدابير الوقاية والرعاية الصحية والتكفل بالحالات الَّتِي قد تكون ضحية لهذا الزواج.
- توفير العدد الكافي من المساعدات الاجتماعيات بالمحاكم وتمكينهن من الوسائل اللازمة للقيام بمهام البحث الاجتماعي في قضايا زواج القاصر.
خديجة الوهابي
مسيرة في الشؤون الاجتماعية
-خلية التكفل بالنساء والأطفال –
بالمحكمة الابتدائية بطنجة
