آخر الأخبار
تقارير رسمية ترسم صورة وردية عنها وأخرى تكشف وجهها الصعب الغلاء يحاصرها وتكلفة المعيشة فيها عالية وسكانها يعانون.. هل حقًا طنجة مدينة دون فقر؟

شكَّل عيد الأضحى الماضي «تيرمومتر» لقياس الوضع الاقتصادي والاجتماعي بطنجة، فالمدينة الَّتِي يتجاوز تعداد سكانها المليون وربع المليون نسمة، كانت على موعد مع مناسبة دينيَّة تحوَّلت إلى عادة اجتماعيَّة تبرز فيها عديدٌ من المصاريف الَّتِي تُمثّل تحديًّا للأسر، وتكشف مدى قدرتها على الصمود في وجه المسلسل الطويل من غلاء الأسعار والتزايد المتسارع في متطلبات الحياة.
هَذِهِ الفترة أبرزت وضعين متناقضين يُؤكّدان أنَّ الصورة النمطيَّة، الَّتِي كانت مرسوم على مدن المنطقة الشمالية للمملكة عمومًا ومدينة طنجة على وجه التحديد، لم تعد واقعيَّة لا حتَّى قريبة من الواقع، فمن جهة أتى العديد من «الكسابة» و«الشناقة» الَّذِينَ عرَّضوا مواشيهم بأثمنة اعتبرها كثيرون «خيالية»، ليفاجئوا بأنَّ أغلبيَّة المواطنين يشتكون من غلاء الأسعار، بل إنَّ كثيرًا منهم قرَّروا عدم اقتناء الأضحيَّة لهَذَا السبب، ومن جهة أخرى أكَّدت شهادات العديدين أنَّ سكان الشمال، شأنهم شأن باقي المغاربة، عانوا كثيرا مُوجةَ التضخُّم وغلاء الأسعار، وما يزيد معاناتهم أكثر هو الاعتقاد، أو الوهم، بأنَّهم «أغنى» من غيرهم.
هَذَا المدخل كان من الضروري التعريج عليه قبل التطرُّق إلى تقرير ذي ارتباط وثيق بها الوضع، والحديث هنا عن المذكرة الصادرة عن المندوبيَّة الساميَّة للتخطيط حول «تطوُّر معيشة السكان على ضوء نتائج البحث الوطني بشأن مستوى معيشة الأسر المغربيَّة لسنة 2022، الَّتِي أوردت أن مستوى الفقر متعدّد الأبعاد تراجع بشكل كبير على مستوى جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، وهو أمر يستحقّ أن يُوضع تحت المِجهر بناءً على الواقع، من جهة، ومن جهة أخرى استنادًا إلى العديد من الأرقام الرسميَّة الأخرى.
- هل حقًا طنجة دون فقر؟
وترى الأرقام الرسميَّة الصادرة عن مندوبيَّة التخطيط، أنَّ جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، عمومًا، من بين الجهات الَّتِي سجَّلت أهم التراجعات على مستوى مؤشرات «الفقر متعدد الأبعاد»، في سياق تراجع عام شهده المغرب لمؤشرات الفقر، الَّتِي انخفضت من نسبة 40% سنة 2001 إلى 9،1% سنة 2022، ما جعل التقرير يستنتج أن مستوى المعيشة في المملكة تطوّر بشكلٍ إيجابيٍّ، مبرزًا أنَّ هَذَا الأمر يُعزى بشكلٍ رئيسيٍّ إلى الانخفاض الحادّ في مستوى الفقر متعدّد الأبعاد في الوسط القروي على مدى العقدين الماضيين من 73،4% سنة 2001 إلى 19،4% سنة 2014 ثم إلى 11،2% سنة 2022.
ويرى التقرير، أنَّه على المستوى الجهوي، انخفض مستوى الفقر متعدّد الأبعاد بشكل كبير في جميع الجهات على مدى العقدين الماضيّين، وفي صدارة تلك الجهات أشار إلى جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، وثُمّ جهة الشرق جهة الرباط–سلا- القنيطرة، وجهة سوس–ماسة، وجهة الدار البيضاء-سطات، وجهة مراكش–آسفي، وجهة درعة-تافيلالت، حيث تجاوز متوسط الانخفاض السنوي نسبة 10%، وعلى الرغم من هَذَا التراجع، تظلّ جهة بني ملال – خنيفرة، وجهة فاس-مكناس الأكثر فقرًا في سنة 2022 بمعدل فقر يفوق 10% ويصل على التوالي إلى 11،6 و10،4%.
وإذا ما أردنا ترجمة هَذِهِ الأرقام، فإنَّ ذلك يعني أنَّ 10% من ساكنة جهة طنجة–تطوان–الحسيمة تخلصت من الفقر سنويًّا في المتوسط، على مدى أكثر من عقدين، فإنّ الوثيقة ذاتها تشير إلى مسألة مُهمّة، وهي أنَّ معدلات التخلُّص من الفقر في جهتي بني ملال- خنيفرة، وفاس–مكناس، ما زالت بطيئة، والملاحظ أنَّ هاتين الجهتين تحديدًا تُصدران أعدادًا كبيرة من الباحثين عن العمل إلى مدن الشمال، خصوصًا مدينة طنجة، بسبب الخصاص الَّذِي تعانيه على المستوى التنمويّ وعلى صعيد إحداث فرص الشغل الجديدة، وهو ما ولد نموًا ديموغرافيًّا متزايدًا من جهة، ومن جهة أخرى خلق منافسة حاميَّة الوطيس في سوق الشغل مع الساكنة المحلّيَّة.
وحسب ما جاء في المذكرة، فإنَّ تفكيك الفقر المتعدد الأبعاد حسب كل بُعد يُظهر أنَّ الفقر النقدي يشكل مصدرًا رئيسيًّا لهَذَا الشكل من الفقر، إذ يفسر أكثر من نصف انتشار الفقر المتعدد الأبعاد بنسبة إجمالية بلغت 52%، سنة 2022، مقابل 37،8% سنة 2014، كما تبلغ مساهمة الحرمان من الولوج إلى الخِدْمات الاجتماعيَّة الأساسيَّة، خصوصًا المياه والكهرباء والصرف الصحي، والعجز الاجتماعي في التعليم نسبتي 25 و23% على التوالي سنة 2022.
وتغيب الجهة عن الجهات الَّتِي يُشكّل الفقر النقديّ أهم عوامل الفقر متعدد الأبعاد في أقاليمها، في حين يحضر هَذَا العامل في صدارة عوامل الفقر بجهة درعة – تافيلالت بمساهمة تصل إلى 78،9% سنة 2022، وجهة فاس-مكناس بنسبة 64،3%، وجهة سوس-ماسة بنسبة بلغت 60،3%، بل أيضًا في الجهات الجنوبيَّة الثلاث بنسبة 58،8%، ثم في جهة مراكش-آسفي بنسبة 51،2% وجهة الدار البيضاء-سطات بنسبة 50،9%.
- وضع مالي يثير خوف الأسر
وبغض النظر عن التوزيع الجغرافي لنسب الفقر، فإنَّ جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، شأنها شأن كل جهات المملكة، معنيَّة باستمرار المؤشرات السلبيَّة بخصوص الوضع المالي للأسر، فأكثر من 16% منها ما زالت عاجزة عن تغطية نفقاتها، الَّتِي تستطيع ذلك فإنَّ أكثر من 70 منها تقوم بذا الأمر بصعوبة، وهو معطى سلبيٌّ يغطي على أي محاولات لإبراز الأرقام الرسميَّة الأخيرة من منظور إيجابيّ، كما أنه أمر تُؤكّده المعطيات الواقعة، الَّتِي تكشف عنها تقارير أخرى رسميَّة بخصوص جودة الحياة وغلاء تكلفة المعيشة.
وحسب المذكرة الصادرة مؤخرًا، فإنَّ أكثر من ثمانيَّة أسر من كلّ عشرة في المغرب، أي 83،7%، صرحوا بأنَّهم يتمكنون من تغطية نفقاتهم، منهم 70،1% بصعوبة و13،6% دون صعوبة، وأوضحت المندوبيَّة أنَّه «علاقة بالوضع المالي لأسرهم خلال 12 شهرا الماضيَّة، صرحت 4،2% تمكنوا من الادّخار، و4،4% يسحبون من ادّخاراتهم، و7،6% يلجؤون إلى الديون لتغطية نفقاتهم».
وأشار المصدر ذاته، إلى أنَّ هَذِهِ النسب تبلغ على التوالي 78،9% منها33،7% دون صعوبة و45،2% بصعوبة، و14،4% و4% و2،8% بالنسبة لفئة 10% من الأسر الأكثر يسرًا، مقابل 80،4% منها نسبة 2% بسهولة و78،4% بصعوبة، ثم 0،7% و6،1% و12،7% بالنسبة لفئة 10% من الأسر الأقل يسرًا.
كما أبرزت المذكرة، أنَّ حوالي ثلاثة أرباع أرباب الأسر، 75،1% تحديدًا، اعتبروا أنَّ مستوى معيشتهم عرف تدهورًا مقارنة بما كان عليه قبل جائحة (كوفيد –19)، وظلَّ مستقرًا بالنسبة لـ23،5% منهم وتحسن بالنسبة لـ1%، وبلغ هَذَا التدهور أوجه بـ86.9%، لدى عشر الأسر الأقل يسرًا، مقابل 50،4% بين العشر الأكثر يسرًا.
من جهة أخرى، أشارت المندوبيَّة إلى أنَّ ارتفاع تكلفة المعيشة يُعدُّ السببَ الرئيسيَّ لهَذَا التدهور بالنسبة لأكثر من 45،3% من الأسر الَّتِي صرَّحت بتدهورٍ مستوى معيشتها، وظهور احتياجات جديدة» بالنسبة لـ17،7%، وانخفاض أو فقدان الدخل بسبب فقدان الوظائف بنسبة 13،1%، والجفاف بنسبة 12،3%.
وفيما يتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة، فإنَّ النفقات الَّتِي تقلق أرباب الأسر خلال الأشهر الـ12 المقبلة هي تكلفة السلة الغذائيَّة بالنسبة لـ24،9%، ونفقات الرعاية الصحيَّة بنسبة 19،2%، ونفقات الملابس بنسبة 12،8%، وتكاليف النقل بنسبة 11%، كما تشكل نفقات تمدرس الأطفال ونفقات التجهيزات مخاوف تهمّ على التوالي 9.8% و8.6% من أرباب الأسر.
ويندرج البحث الوطني بشأن مستوى معيشة الأسر لسنة 2022، في إطار البحوث البنيويَّة، الَّتِي تنجزها المندوبيَّة الساميَّة للتخطيط، وقد أُنجزت النسخة الرابعة من البحث بعد البحوث، الَّتِي تم إجراؤها سنوات 1991 و1999 و2007، لدى عينة من 18.000 أسرة موزعة على المستوى الوطني وتمثل مختلف الفئات السوسيو اقتصاديَّة وجهات المملكة، ولأخذ التقلُّبات الموسميَّة والأحداث الدينيَّة والاجتماعيَّة الَّتِي تُؤثّر في أنماط الاستهلاك ودخل الأسر في الاعتبار، جُمّعت المعطيات على مدار سنة كاملة، من 15 مارس 2022 إلى 14 مارس 2023.
- طنجة والغلاء.. ثنائية لا تنفصل
والملاحظ أن هَذِهِ التقارير، ورغم كونها في الأصل تنطلق من أرقام ومعطيات موضوعيَّة، فإنّ تداولها إعلاميًّا يُعطي انطباعًا خاطئًا ومُتسرعًا بخصوص طبيعة الحياة في مختلف المناطق بالمغرب، خصوصًا في مدينة طنجة، حيث يعتقد كثيرون، استنادًا إلى العبارات المتداولة، أنَّ الفقر غير موجود في المدينة، أو أنَّ جميع الناس يعيشون حياة باذخة، وهو ما يُفسر مثلا لجوء العديد من تجار المواشي إلى طنجة خلال موسم عيد الأضحى الماضي وإطلاق العنان إلى أسعارهم الملتهبة، دون أن يجد بعضهم حرجًا في ترديد عبارة «طنجة فيها الفلوس».
وعلى أرض الواقع، تظهر العديد من التقارير الأخرى أنَّ مدينة طنجة تعاني مشكلات اقتصاديَّة واجتماعيَّة عديدة، على غرار الغلاء، إذ تُعدُّ واحدة من أكثر المدن غلاء في القارة الإفريقيَّة وليس في المغرب فقط، بالإضافة إلى أرقام التضخُّم المتسارعة، الَّتِي أدَّت إلى ارتفاعٍ مُزمنٍ وغير تحكُّم فيه في أثمنة السلع الأساسيَّة، بما في ذلك الموادّ الغذائية، والأمر هنا يتعلق بتقاريرَ دوليَّةٍ وبمعطيات مغربيَّة رسميَّة.
فعلى سبيل المثال، نعود إلى المعلومات الَّتِي حملها تقرير موقع «ناميبيو» الأمريكي في أبريل الماضي بخصوص مؤشر تكلفة المعيشة في 432 مدينة عبر العالم، الَّتِي تُعدُّ الأغلى، حيث دخلتها مدينة طنجة في الرتبة 374 عالميًّا، لكنَّها أيضًا دخلت قائمة أغلى 20 مدينة في القارة الإفريقيَّة واحتلت المرتبة الرابعة على المستوى الوطني.
وحسب التقرير، فإنَّ مدينة البوغاز احتلَّت المرتبة 17 إفريقيًّا من بين أغلى مدن القارة، في حين حلَّت مدينة الدار البيضاء في المرتبة العاشرة إفريقيًّا و344 عالميًّا، والعاصمة الرباط في المرتبة الـ11 إفريقيًّا و349 عالميًّا، ثم مدينة مراكش في المركز الـ13 إفريقيًّا و354 على المستوى العالم، وتقدَّمت مدينة طنجة في هَذِهِ القائمة على مدينة أكادير الَّتِي احتلت المركز الـ19 على المستوى الإفريقيّ و378 عالميًّا.
وهناك أيضًا مؤشرات رسميَّة صادرة عن المندوبيَّة الساميَّة للتخطيط، تُؤكّد أنّه لفهم الوضعيَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بطنجة لا بُدَّ من ربط الأمور ببعضها والاطّلاع على الواقع من منظور شمولي، ففي شهر مارس الماضي مثلًا، سجل متوسط الرقم الاستدلالي السنوي للأثمان عند الاستهلاك ارتفاعًا بنسبة 0،9% بالمقارنة مع الشهر نفسه من سنة 2023، وذلك نتيجة تزايد أثمان الموادّ الغذائيَّة بـ0،9% وأثمان الموادّ غير الغذائية بـ1،1%.
وفي التقرير ذاته، نجد أنَّ مدينة طنجة إلى جانب مدينة آسفي سجلتا ثالث أكبر ارتفاع في الرقم الاستدلالي بنسبة 1،2%، بعد كلٍّ من الحسيمة بنسبة 1،5% والعيون بنسبة 1،3%، متفوقة على العديد من المدن الكبرى مثل مراكش والقنيطرة وأكادير وتطوان وفاس ووجدة والرباط ومكناس والدار البيضاء.
أمَّا المذكرة الصادرة قبل أيام بخصوص الرقمِ الاستدلاليِّ للأثمان عند الاستهلاك بالنسبة لشهر ماي الماضي، فكشفت عن أنَّ التراجع المسجل في مدينة طنجة ضئيلٌ جدًّا، مُقارنةً مع الارتفاع المسجل سابقًا، إذ لم يتعد 0،2%، علمًا أنَّ الرقم الاستدلالي عمومًا شهد انخفاضًا بالنسبة نفسها، مُقارنةً بشهر أبريل 2024، نتيجة تراجع الرقم الاستدلالي لأثمان الموادّ الغذائيَّة بنسبة 0،7% و0،4% بالنسبة للرقم الاستدلالي لأثمان الموادّ غير الغذائية.
ووفق مندوبيَّة التخطيط، فإنَّ نسبة التضخم بالنسبة للمواد الاستهلاكيَّة بالمغرب عرفت ارتفاعا بـ0،4% خلال شهر ماي الماضي، مقارنة بالفترة نفسِها من السنة الماضيَّة، وفيما يخصُّ الموادّ غير الغذائيَّة، فإن الارتفاع همّ، على الخصوص، أثمان الغاز بـ12،3%، في حين أنَّه بالنسبة للموادّ الغذائيَّة ارتفعت أثمان اللحوم بـ0،8% والخضر بـ0،2%.
وهمّت انخفاضات الموادّ الغذائية المسجلة ما بين شهري أبريل وماي 2024، على الخصوص، أثمان السمك وفواكه البحر بـ5،7% والحليب والجبن والبيض بـ2،1% والزيوت والذهنيات بـ2%، كما همت الفواكه بـ0،3% والخبز والحبوب بـ0،2% والقهوة والشاي والكاكاو بـ0،1%.
وذكر التقرير نفسه، أنّه بناءً على المعطيات المذكورة، فإنَّ مؤشر التضخُّم الأساسي، الَّذِي يستثني الموادّ ذات الأثمان المحدّدة والموادّ ذات التقلُّبات العالية، عرف خلال شهر ماي 2024 ارتفاعًا بـ0،1% مُقارنةً بشهر أبريل 2024 وبـ2،2% مُقارنة بشهر ماي 2023، وهو معطى تُعدُّ مدينة طنجة أيضا معنيَّة، وبالتالي وجب استحضارُه في السياق العام للتحوُّلات الَّتِي تشهدها الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
