الجهة
طنجة العالمية.. صراع الحضارات يختنق بعوامل البداوة

ما إن تضع قدميك بأزقتها وشوارعها، حتّى يحتضنك عبقُ تاريخِها، وعطرُ حضارتِها، كيف لا وهي المدينة الإغريقيّة الضاربة في القدم، الَّتِي امتزجت بحضارات أخرى، الحضارة الفنيقيّة والرومانيّة والقرطاجيّة، وانفتحت على الضفة الأخرى وتشبعت بثقافتها، وأصبحت بوابة إفريقيا. هي طنجى وطنجيس وغيرها من الأسماء، هي ملتقى البحرين، هي المدينة السياحية الَّتِي يقع في غرامها كلّ من يزورها، هي المدينة الَّتِي مزجت بين الجبال والغابات والشواطئ، هي المدينة الساحرة، إلا أنَّها أصبحت في السنوات الأخيرة أرضًا للتضاد، فاخرةً ومُنفرةً، غامضةً وساطعةً، يمتزج فيها الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتتجاور فيها الحداثة الأكثر جلاءً بالتقليد الأكثر تخلفًا.
مما لا شكّ فيه أنَّ طنجة من المدن القليلة جدًا الَّتِي استطاعت أن تجمع بين السياحة إذ تحتل المرتبة الثالثة وطنيًّا، وما بين الاقتصاد إذ تحتل المرتبة ثانية وطنيًّا، إذ استقبلت مشاريعَ كبرى في مجال النقل والصناعة والخِدْمات اللوجستية، وأصبحت وجهةً مُفضلةً للإقامة والسياحة والاستثمار، بفضل الحركة التنموية المندمجة والأوراش الكبرى والمشاريع المهيكلة، الَّتِي أطلقها جلالة الملك، وأعطت دفعةً قويةً للإقلاع الاقتصاديّ بالمنطقة، لا سيَّما مشروع ميناء «طنجة المتوسط»، وميناء طنجة الترفيهي، والقطار فائق السرعة، نجد أنَّ كلَّ هَذِهِ المجهودات تتكسر على صخرة مشاكلَ هيكليّةٍ بسطت سيطرتها على مختلف مناحي الحياة بالمدينة، وتصطدم بإشكاليات كثيرة تعيق عليها السير قدمًا إلى تحقيق الهدف المنشود، ما يجعل المدينة عبارة عن نموذجين مختلفين، نموذج طنجة الكبرى، ونموذج طنجة المُهمّشة الغارقة في طي النسيان والتهميش.
فإذا كانت محاسن طنجة كثيرة جدًّا، فمشاكلها عديدةٌ أيضًا، خصوصًا عندما يمتزج فيها الجانب الاقتصاديّ بالاجتماعيّ والثقافيّ، بل حتّى السياسي، ما دفع بالمجتمع المدني إلى دقّ ناقوس الخطر إزاء تشويه المجال الجمالي للمدينة، وانتشار عددٍ من مظاهر «الترييف»، المتجلية في السكن غير اللائق والعشوائي في عددٍ من الأحياء الجديدة، وكذا الأسواق العشوائية، واحتلال الملك العمومي، وما يترتب عنهما من مشاكل، بالإضافة إلى غياب النظافة في بعض الأحياء، المشتهرة بتربية الأغنام والدجاج والأرانب فوق السطوح، ناهيك عن ظاهرة التسوّل بكلّ أنواعه وأشكاله، وهي مظاهر تُدمّر جمال المدينة.
- السكن العشوائي:
أينما وليت وجهك بطنجة إلا واحتضنك البناءُ العشوائيُّ، خصوصًا خلال السنوات الأخيرة، الَّتِي تنامى فيها البناء العشوائي بشكلٍ كبيرٍ، لدرجة أنَّ بعض السياسيّين احترفوا بطنجة هَذَا النوع من البناء، الأمر الَّذِي يعيق في تطور المدينة، فإذا ذهبنا لمنطقة مسنانة، الَّتِي تُعدُّ منطقةً جديدةً نسبيًّا، سوف تتفاجأ بحجم البناء العشوائي، لدرجة يجعلك تعتقد أنّك في «قندهار» وليس في مدينة سياحية حظيت باهتمام ملكي.
الغريب أنَّ هَذِهِ الأحياء الهامشية الَّتِي تفتقر لأبسط شروط العيش الكريم تُوجد بقرب مناطق لها رمزيتها وتاريخها مثل الرميلات وبولفار؛ بل هناك أحياء مثل المرس وحي فاطمة وغيرها من الأحياء الَّتِي تنتمي لأكبر مقاطعة في المغرب (مقاطعة بني مكادة) تجعلك تشعر كأنّك في حاضرة للمواشي، إذ تجد الأغنام والدواجن وغيرها.
- احتلال الملك العمومي:
احتلال الملك العمومي بطنجة، ظاهرة ليست بالجديدة أو الغريبة، فقد تم التطبيع معها، بشكل كبير، الأمر الَّذِي جعلها تعتبر من أهم الإشكالات الَّتِي تواجه تنظيم المجال وتطويره بالمدينة، ففي الوقت الَّذِي يتساءل فيه الساكنة عن الأسباب والعوامل الَّتِي دفعت السلطات المخصصة، إلى منح تراخيص بفتح العديد من المقاهي والمطاعم الشعبية في دكاكين لا تتوفر فيها الشروط القانونية، يستغرب المرء لصمت السلطات المحلية عن احتلال أصحاب المقاهي ومحلات الأكلات السريعة والباعة الجائلين للأرصفة المجاورة، دون مراعاة لحياة المواطنين، الَّذِينَ أصبحوا يمشون وسط الطريق جنبًا إلى جنب مع السيارات والدراجات، بل الأدهى من ذلك أن بعضَهم يعتبر أن استغلال الملك العام حقًا مشروعًا، وقام بضمّه إلى ملكه الخاصّ عن طريق بنائه أو تسييجه، في غياب أيّ المراقبة سواء الإدارية أو القضائية.
إسماعيل/ فاعل حقوقي وناشط جمعوي بمدينة طنجة، يؤكد في تصريح خصّ به جريدة «لاديبيش»، أنَّ ظاهرة احتلال الملك العمومي أصبحت قاعدةً تم التطبيع معها بشكلٍ كبيرٍ، فشكايات المواطنين واستنكارهم، لم يكن دافعًا للسلطات من أجل التحرّك والقضاء على هَذِهِ الظاهرة، فتحرك السلطات يكون لحظيًا من لحظة لأخرى، لأسباب وعوامل تخصهم لوحدهم، فتنظيم حملات محتشمة يقوم بها أعوان السلطة المحلية ومعهم بعض أفراد القوات المساعدة، الَّذِينَ يعملون على حجز بعض طاولات وكراسي المقاهي أو سحبها إلى الخلف، إلا أنّه بعد وقت قصير تعود الحالة إلى ما كانت عليه، كما لو أنَّ هناك «اتّفاقا» يخول لهم الاستغلال والتملك.
- طنجة مدينة التسول:
ظاهرة التسوّل بطنجة اتّخذت، في السنوات الأخيرة، أشكالًا جديدةً ومختلفةً، فبعد أن كانت مقتصرة على العجزة والنساء واستغلال المعوقين وبراءة الأطفال، تحوّلت بشكلٍ مُريبٍ لتشمل مئات من المهاجرين الأفارقة الشرعيين وغير الشرعيين، الَّذِينَ حلّوا بالمدينة من دول إفريقية مختلفة، واستقروا بها في انتظار تحقيق حلم العبور إلى أوروبّا، بالإضافة إلى عشرات من النساء السوريات، اللاتي وجدن من التسول مهنةً ووسيلةً لسد جوعهن واحتياجاتهن اليومية.
فبعد أن كان أغلب الأفارقة يعملون في بيع الهواتف النقَّالة والعطور والنظارات الشمسية على الأرصفة، صار البعض منهم الآن يمتهن التسوّل بشتى الطرق وبمختلف الأساليب، حيث تجدهم منتشرين في الطرقات والشوارع وممرات الأزقة، ومحطات النقل والمحالات التجارية الكبرى وبالأماكن الَّتِي يرتادها السياحُ والزوّارُ، ما أصبح يُمثّل معضلةً اجتماعيّةً حقيقيّةً.
وبهَذَا الصدد يؤكد لنا ذات المصرح -إسماعيل- أنَّ مدينة طنجة بدأت تفتقد لمظاهر المدينة المتحضرة، وبدأت تعيش البداوة، وذلك راجع لعوامل عدة، فطنجة اليوم تسير سير مدينة الدار البيضاء. ويضيف أن ظاهرة التسوّل تجاوزت كلَّ الحدود والخطوط، وأصبحت تُشكّل قلقًا كبيرًا للمواطنين والمواطنات، فأينما ذهبت أنت وعائلتك للاستمتاع إلا ووجدت جحافلَ من المتسولين الَّذِينَ اقتحموا الشواطئ والغابات والمقاهي والمطاعم وغيرها من الأماكن الخاصة، الَّتِي يزورها الإنسانُ قصد التمتع بجزء من الراحة، خاصة بعد أسبوع شاق من العمل.
- أسواق تشبه الأسواق الأسبوعية:
إنَّ الأسواق الشعبية غير المهيكلة، الَّتِي تنتشر بالأحياء الشعبية وتحتضن مئات من الباعة المتجولون، تجسد ظاهرة «البداوة»، خصوصا عندما تجد كلَّ الشوارع والأزقة ممتلئةً عن آخرها بأكواخ من القصدير القديم والخشب أو «نولات» مغطاة بالورق البلاستيكي المقوّى، تعرض بها جميع أنواع الخضر والفواكه وحتّى المتلاشيات، الَّتِي عفنت الدنيا، الَّذِينَ يدخلون يومًا في مشادات وتلاسنات ومعاركَ تنتهي أغلبها بمقرات الشرطة والمستشفيات.
فالعديد من الأسواق الموجودة بمدينة طنجة، تعمل على سلب جمالية المدينة واغتصاب حاضرتها، فعامل الترييف أصبح طاغيًّا على مدينة مثل مدينة طنجة الجميلة.
- ضعف خدمات النقل العمومي:
لا أحد يمكن أن يختلف أنَّ بعضَ الخِدْمات الأساسية بمدينة طنجة، هي خِدْمات ضعيفة، بل رديئة لا ترقى إلى طموحات ورغبات المواطنين والمواطنات، فإذ توقفنا عند النقل العمومي، سوف ينتابك شعورٌ من الغبن والحزن، لأنَّها حافلات تصلح لكلّ شيءٍ إلا نقل المواطنين والمواطنات، إذ لا تحفظ لهم كرامتهم بشكل كُلّي.
هَذِهِ الحافلات الَّتِي فازت بصفقة النقل العمومي، لا تستطيع توفير الحد الأدنى من سلامة الزبناء، فالأشهر القليلة الماضية سجَّلت المدينة بعض الاحتراقات في صفوف هَذِهِ الحافلات، بالإضافة إلى بعض حوادث الناتجة عن الحالة الميكانيكية لهَذِهِ الحافلات.
إنَّ مدينة طنجة وصلت مرحلة الصراع من أجل تحديد الهُوية، صراع ما بين تاريخ حافل بتلاقي الحضارات والثقافات، تُخفي عطرَ وعبق التاريخ المفعم بالأحداث التاريخية والعالمية، وما بين طنجة الَّتِي غرقت في عوامل البداوة والترييف، وهي ضريبة كلّ مدينة متحضرة حاولت الانفتاح وفتحت أبوابها للهجرة الداخلية على وجه الخصوص.
