سياسة
81 سنة على تقديم وثيقة الاستقلال المنسية

يصادف يوم 14 فبراير 2024، حلول الذّكرى الحادية والثمانون؛ لتقديم أوّل وثيقة للمطالبة باستقلال المغرب ووحدته الترابيّة من طرف الجبهة القوميّة للوطنيّة المغربية بتطوان يوم 14 فبراير 1943 (الَّتِي تضمّ كلًّا من حزب الإصلاح وحزب الوحدة المغربية).
حملت الوثيقة توقيع كلّ من الزعيمين الوطنيين عبد الخالق الطريس والشيخ المكي الناصري، ووُجّهت نسخة من الوثيقة إلى السلطان ومفوضيات الدول الكبرى بطنجة والقنصليتين الإيطاليّة والألمانيّة بتطوان.
*مناخ دولي مُلائم
جاء تقديم الوثيقة -المشار إليها أعلاه- بعد مرور ثلاثة وعشرين يومًا فقط على لقاء أنفا، الَّذِي انعقد بالدار البيضاء ما بين 14 و24 يناير 1943، بحضور كلّ من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والجنرال ديغول ممثلًا للمقاومة الفرنسيّة. ضمن ذلك السياق التاريخي الَّذِي كان يتّسم بوجود معسكرين كبيرين متحاربين، يتكوّن الأوّل من دول الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والاتّحاد السوفياتي، بينما يضمّ الثاني دول المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا.
جنى المغرب من مؤتمر «أنفا» مكسبًا سياسيًّا مُهمًّا تجلّى في لقاء -المغفور له- الملك محمد الخامس بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، إذ تباحث الطرفان في التحولات الكبيرة الَّتِي سيشهدها العالم ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أعرب الرئيس الأمريكي -خلال اللقاء- عن دعم بلاده لمسعى المغرب لاحقًا بعد نهاية الحرب العالمية لاسترجاع سيادته.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الحلفاء قدّموا -في تلك الفترة- وعودًا جذّابةً للشعوب المستعمرة حتّى تقف بجانبهم في الحرب ضد النازية، إذ أكَّد الميثاق الأطلسي، الَّذِي وقّعه تشرشل وروزفلت على «حق الشعوب في العيش في ظلّ النظام الَّذِي تريد العيش في كنفه».
انطلاقًا من ذلك المعطى المهمّ، أدرك الوطنيّون المغاربة في المنطقة الخليفية، أنَّ المناخ السياسيّ الدولي يجتاز مرحلة انتقالية، ما يستدعي الانتقال لطورٍ جديدٍ من النضال الوطني يصبح فيه مطلب الاستقلال الشعار المركزي للمرحلة المقبلة.
*رؤية متقدمة
عكست الوثيقة الَّتِي بلورها كلّ من حزب الإصلاح الوطني بقيادة الزعيم عبد الخالق الطريس، وحزب الوحدة المغربية بزعامة الشيخ المكي الناصري، الَّتِي نُشِرَت بجريدة «الوحدة المغربيّة» في عددها المُؤرّخ بـ2 مارس 1944، تحت عدد (343)، رؤية متقدّمة في عدّة جوانب تتعلق من جهة بالنظرة إلى مستقبل النضال الوطني من جهة، وإلى المشروع المجتمعي المغربيّ من جهة أخرى.
أكدت وثيقة تطوان للمطالبة باستقلال المغرب، إذ هو السبيل الوحيد لحل القضية المغربية، ويمر عبر «إعلان سقوط نظام الحماية المفروض في جميع أنحاء المغرب» و«تجديد الاعتراف باستقلال المغرب وسيادته الداخلية والخارجية وإعادة وحدة ترابه الوطني كما كانت في عهد الاستقلال تحت ظل العائلة العلوية المالكة». وبالتالي فإنَّ مرحلة النضال السابقة الَّتِي كانت لا تتجاوز سقف تعزيز بعض المكتسبات وتحقيق الإصلاحات ذات الطبيعة الاقتصاديّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة تحت ظلال حرب المستعمر قد ولّت وانقضت.
أمَّا الجانب الآخر البالغ الأهمية في وثيقة 14 فبراير للمطالبة بالاستقلال، فيتعلق بالرؤية المستقبلية للمشروع المجتمعيّ المغربيّ، إذ أكدت الوثيقة قيم الانفتاح على القيم الكونيّة، الَّتِي حملتها الحضارة الحديثة، في انسجام تامّ مع القيم المجتمعيّة، الَّتِي تعكس الأصالة المغربية: «المغرب الحر الَّذِي ينشده المغاربة أجمعون لن يكون مغربًا مُقفلًا في وجه الحضارة الحديثة، ولا معزولًا عن الاحتكاك ببقية الأمم والشعوب، ولا مطبوعًا بأي طابع تشمّ منه رائحة التعصّب الجنسيّ أو الدينيّ أو عداوة الأجناس والأديان الأخرى».
كما تبرز الوثيقة الَّتِي حملت توقيع الأستاذين عبد الخالق الطريس والشيخ المكي الناصري عن «الجبهة القومية للوطنية المغربية»، تصورًا سياسيًّا واضح المعالم بشأن تموقع المغرب المستقبليّ ضمن الخريطة الدولية، إذ أكَّدت حياد المغرب التامّ في النزاعات الدولية وعدم اصطفافه خلف معسكر معين: «اعتبار التراب المغربي بجميع أطرافه وحدوده وشواطئه ومياهه وأجوائه أرض حياد تامّ مطلق عند قيام أي نزاع دولي مسلح، وبالنسبة إلى كلّ المتحاربين حاضرًا ومستقبلًا». وبهَذَا لا نكون مبالغين إذا قلنا إنَّ البوادر الأولى لتصوّر سياسة عدم الانحياز ما بين المعسكر والشرقي، الَّتِي أُعلن عنها لاحقًا في مؤتمر باندونغ الَّذِي انعقد في إندونيسيا بمشاركة 29 دولة ما بين 18 و24 أبريل 1955، وشكل النواة الأولى لحركة دول عدم الانحياز.
*غبار النسيان
بحلول الذكرى الحادية والثمانين لتقديم أوّل عريضة للمطالبة باستقلال المغرب (14 فبراير 1943)، لا يسع المرء (وقبل ذلك المؤرخ) فإنّ يتساءل لماذا لم تحظَ هَذِهِ المبادرة التاريخيّة والوثيقة المهمّة الَّتِي تمخّضت عنها بالاهتمام والدراسة الَّتِي تستحقها؟ كما يحق لنا كمغاربة وكمهتمين بالذاكرة الجماعية لماذا أغفل (حتى لا نقول تجاهل) بعض زعماء الحركة الوطنية أمثال علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي ومحمد بنسعيد آيت يدر في مذكراتهم وأحاديثهم التطرق لهَذِهِ الوثيقة؟
وهل يجوز اعتبار الاندماج المتسرّع لحزب الإصلاح الوطني وذوبانه داخل حزب الاستقلال في 17 مارس 1956، قد حرم سكان منطقة الحماية الخليفية من معبر سياسي عن خصوصيات المنطقة الشمالية الَّتِي كانت خاضعة لنظام الحماية الإسباني اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، الأمر الَّذِي ساهم في العزلة الَّتِي عاشتها تلك المناطق عقودًا طويلة من الزمان؟
كيفما كانت الخلفيات والمبرّرات لهَذَا التجاهل، تظلّ ذكرى 14 فبراير 1943 لتقديم وثيقة المطالبة باستقلال المغرب، محطةً مُشرقةً من الذاكرة الجماعية المحلّيَّة، وفصلًا بارزًا من النضال الوطني للمغاربة في سبيل الاستقلال والتحرّر من قيود الاستعمار، ما يستدعي العمل لنفض غبار النسيان عنها.
