القانون والناس
واقع الكراء من الباطن.. أي قانون يحمي صاحبه؟

للمكري حقّ الدعوى المباشرة في مواجهة المكتري الفرعي، في جميع الحالات الَّتِي تكون له في مواجهة المكتري الأصلي، دون إخلال بحقّه في الرجوع على هَذَا الأخير. ويسوغ للمكتري الأصلي دائما التدخل في الدعوى. وللمكري أيضا دعوى مباشرة ضد المكتري الفرعي لإجباره على ردّ العين عند انقضاء الأجل المُحدّد.
لكن إذا كانت العلاقة الكرائية بين المكري والمكتري، بشأن المحلات المُخصّصة للاستعمال التجاري، الصناعي والحرفي، أحدث القانون (49.16) يهدف إلى المساهمة في استقرار الحياة الاقتصادية بشكل يأخذ في الاعتبار المستجدّات الحديثة مع ضرورة خلق التوازن بين طرفي عقد الكراء التجاري، الصناعي أو الحرفي، بحيث حاول المُشرّع -من خلال هَذَا القانون- تجاوز بعض السلبيات الَّتِي أنتجت بعض الإشكالات القضائيّة والواقعيّة، في إطار القانون السابق، خصوصًا ما يتعلق بواجبات وحقوق طرفي العقد التجاري، الصناعي أو الحرفي، ومجال تطبيق القانون المتعلق بكراء المحلات التجارية، الصناعية والحرفية، وكذا سبل إنهاء عقد الكراء التجاريّ، الصناعيّ أو الحرفيّ.
فهل تحديد عقود كراء المحلات الَّتِي يستغل فيها أصلًا تجاريًّا في ملكية شخص يحمل صفة تاجر، حرفي أو صانع هو كراء المهني أم كراء تجاري؟
وهل تتعدّى ذلك إلى عقود كراء الأراضي العقاريّة، الَّتِي شيّدت عليها، إما قبل الكراء أو بعده بنايات لاستغلال أصل تجاري يتعلّق بالأنشطة التجاريَّة المشار إليها نصًا ضمن مدونة التجارة، وأصبحت كذلك عقود كراء المحلّات المُخصّصة في إطار المركبات التجاريّة، الحرفيَّة والصناعيَّة التابعة للمؤسّسات العموميَّة والجماعات الترابيَّة خاضعة لأحكام هَذَا القانون بشرط ألَّا تكون هَذِهِ المحلات مرصودة لمنفعة عامة.
فما محل المكتري في حالة وجود كراء لمحلّات مُخصّصة للمنفعة العامة؟! وهل له الحق في كراء مباشر في حالة التدليس من المكري؟! وهل هناك استثناءات تتعلّق بالمحلات الَّتِي لا تدخل في نطاق تطبيق هَذَا القانون من قبيل عقود كراء محلات الملك العام للدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، كعقود كراء المحلات التجاريَّة، الحرفية والصناعية التابعة لأملاك إدارة الأوقاف، عقود كراء المحلّات الموجودة ضمن المراكز التجارية الكبرى، عقود كراء المحلات الموجودة ضمن فضاءات تشجيع المقاولات الممارسة لنشاطي الصناعة والتكنولوجيا المنجزة من قبل الدولة والجماعات الترابية أو المؤسَّسات العموميَّة.
إن كان المُشرّعُ المغربيُّ قد منح مجموعة من الحقوق لطرفي العلاقة الكرائية مقابل مجموعة من الالتزامات، فمن حقّ المكتري إجراء مجموعةٍ من التغييرات والإصلاحات، الَّتِي يكون الغرض منها إصلاح المحل وتحسين حالته، تماشيًا مع المتطلّبات والحاجيات الآنية وقواعد المنافسة، وهو ما يقابله كذلك واجب المحافظة على العين المكتراة وسلامتها، أمَّا إذا كان من شأن التغيير المحدث بالمحل القيام بإصلاحات ضرورية لمزاولة النشاط التجاري موضوع العلاقة الكرائية، فلا يعد حينها المكتري متجاوزًا حقّه في إحداث تغييرات طفيفة بالمحل التجاريّ المكترى، ما دام أنَّ التغييرات والإصلاحات المحدثة لا تُؤثّر في سلامة البناء ولن يرفع من تحملاته، ومن قبيل هَذِهِ الإصلاحات والتغييرات الأكثر شيوعًا الَّتِي لا تعتبر سببًا خطيرًا يؤثر في بنية المحل وتصميمه (إنجاز سدة غير مؤسسة بالإسمنت ولا علاقة لها بهيكل البناء، إحداث أنابيب التهوية، إصلاحات تحسين وتزيين المحل التجاري…).
حيث تُعدُّ ممارسة أنشطة مكملة أو مرتبطة بالنشاط التجاريّ أو الصناعيّ أو الحرفي الأصلي حقًا من حقوق المكتري، شريطةً أن تكون هَذِهِ الأنشطة غير منافية لغرض وموقع المحل، وليس من شأنها التأثير في سلامة بناية المحل، وأن يوجه المكتري طلبًا في الموضوع للمكري يتضمّن الإشارة بتفصيل للأنشطة المراد ممارستها، هَذَا الأخير منح له القانون (16/49) حقّ الجواب والإفصاح عن موقفه من طلب المكتري داخل أجل شهرين من تاريخ التوصل، وفي حالة مرور الأجل أعلاه دون جوابه يعتبر في حكم الموافقة على الأنشطة موضوع الطلب، أمَّا في حالة جواب المكري الصريح بالرفض، فيجوز للمكتري اللجوء لرئيس المحكمة حيث يوجد المحل باعتباره قاضيًّا للأمور المستعجلة بواسطة طلب قضائيّ، الغاية منه استصدار أمرٍ قضائيٍّ يأذن له بممارسة النشاط أو الأنشطة موضوع رفض المكري.
كما منح المُشرّع التجاري للمكتري حقّ كراء محله التجاري من الباطن كقاعدة عامة باستثناء حالة وجود بند في عقد الكراء التجاري من الطرف المكري يمنع المكتري من تولية المحل المكترى كلا أو بعضًا لغيره.
وفي حالة قيام المكتري بتولية الكراء لفائدة المكتري الفرعي فيتعين على الأوّل القيام بإجراء إخبار المكري بعملية التولية لفائدة الغير، بحيث لا يكون لعملية الكراء من الباطن أية آثار تجاه المكري إلا من تاريخ إجراء المكتري للإخبار المنصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة (24) من القانون (16/49) وبعد إنجاز إجراء الإخبار المذكور يكون المكتري قد مارس حقّه في الكراء من الباطن على أحسن وجه، ويكون من حقّ المكري بالمقابل إشعار المكتري الفرعي بكل إجراء يعتزم القيام به تجاه المكتري الأصلي، تحت طائلة عدم مواجهته به، كما أنّه لا يمكن للمكتري الفرعي التمسك بأي حق تجاه المكتري الأصلي.
كما أقرَّ القانون (16/49) كحقّ للمكتري تفويت حقّ الكراء، باعتباره عنصرًا من عناصر الأصل التجاري في كلّ حالة مستوفية للشروط المنصوص عليها في باب شروط تطبيق هَذَا القانون، وذلك كقاعدة عامة ودون الحصول على إذن مسبق من المكري أو وجود بند بعقد الكراء التجاري يخالف ممارسة هَذَا الحق، وأوجب القانون نفسه ضرورة قيام طرفي عملية التفويت بإخبار المكري بواقعة التفويت، حتّى تنتج هَذِهِ العملية آثارها تجاه المكري.
وجاء هَذَا المقتضى الإيجابي، في إطار حقوق المكتري، تكريسًا لما استقرَّ عليه الاجتهاد القضائي في إطار القانون السابق بشأن أحقية المكتري في تفويت الحق في الكراء، بشرط أن تتم عملية التفويت في إطار عقد رسمي أو محرر ثابت التاريخ، يتضمّن البيانات المنصوص عليها في المادة 81 من مدونة التجارة.
يضاف للحقوق المشار إليها أعلاه، حق المكتري في الحصول على تعويض بسبب إنهاء عقد الكراء من طرف المكري يعادل ما لحقه من ضرر ناتج عن الإفراغ بعد اكتسابه الحقّ في الكراء، وقد جعل المشرع هَذَا الحق ثابتًا ومطلقًا للمكتري لا يجوز حرمانه منه أو الاتفاق في إطار أي بند يفيد حرمانه منه أو التنازل عنه تحت طائلة اعتباره كأن لم يكن.
يتم تحديد قيمة التعويض بناء على جداول أرقام المعاملات، الَّتِي يُحقّقها المكتري والتصريحات الضريبية للسنوات الأربعة الأخيرة، وكذا فاتورات الإصلاحات والتحسينات المجراة لفائدة المحل المكترى، وكل الوثائق الأخرى الَّتِي يجوز للمحكمة الأخذ بها في إطار سلطتها التقديريَّة، سواء كانت وثائق وتصريحات إضافية أم أية حالة وجود وثائق أخرى غير المشار إليها أعلاه، لجوء المحكمة إلى سلوك إجراءات تحقيق الدعوى، خصوصًا إجراء خبرة قضائية الغاية منها مساعدة المحكمة على تحديد التعويض المستحقّ، وبالمقابل منح المشرع لفائدة المكري في إطار دعوى التعويض استعمال كل وثيقة تثبت كون الضرر الَّذِي لحق المكتري أقل مما يتّضح من خلال وثائق المكتري وحججه، أو كون بعض عناصر أصله التجاري لن تتأثر بفعل الإفراغ.
وبمقابل الحقوق المنصوص عليها لفائدة المكتري ضمن نصوص القانون (49.16) منح المشرع مجموعة من الحقوق لصالح المكري في حالات عديدة، ومن بين هَذِهِ الحقوق الحق في إنهاء عقد الكراء بسبب إحداث المكتري تغييرًا بالمحل دون موافقته، إذا كان هَذَا التغيير يُشكّل إضرارًا بالبناية أو يؤثر في سلامتها أو يرفع من تحملات البناء، ولم يُعبّر المكتري بعد إتيان هَذِهِ التغييرات المضرة عن نيته في إرجاع الحالة إلى ما كانت عليها وتجاوز الضرر داخل الأجل الممنوح له في إطار الإنذار المرسل إليه من طرف المكري أو داخل أجل أقصاه ثلاثة أشهر في جميع الحالات، استنادًا لأحكام المادة الثامنة من القانون أعلاه.
ويشترط لإنهاء عقد الكراء بسبب التغييرات المشار إليها في إطار هَذَا القانون، أن تكون هَذِهِ التغييرات تُشكّل ضررًا بالبناية أو تُؤثّر في سلامتها أو ترفع من تحملات البناء، وأن تكون هَذِهِ التغييرات تمّت دون موافقة المكري، وأن يكون هَذَا الأخير قد وجّه إنذارًا للمكتري ومنح له أجلا لإرجاع الحالة وتحقق امتناع المكتري وإثبات المكري لعدم إقدام المكتري على التراجع على ما أنجزه من تغييرات بواسطة محضر معاينة.
كما يجوز للمكري كذلك إنهاء عقد الكراء في حالة قيام المكتري بكراء المحل التجاري من الباطن خلافًا لبند أو التزام ضمن بعقد الكراء، وذلك استثناءً للأصل المنصوص عليه في هَذَا القانون، بحيث يكون المكري محقًا في طلب إفراغ المكتري مع إعفائه من دفع التعويض لهَذَا الأخير، طبقًا لأحكام المادة الثامنة من نفس القانون.
وحتّى يتمكّن المكري من سلوك مسطرة الإفراغ للسبب يتعيّن توافر مجموعة من الشروط، أهمها وجود بند يمنع المكتري من الكراء من الباطن أوّلا، وقيام المكتري بكراء المحل جزئيًّا أو كليًّا ثانيًا، وتوجيه إنذار بالإفراغ يتضمّن السبب أعلاه ثالثًا، وإيداع مقال المسطرة القضائية بواسطة محامٍ لدى المحكمة التجارية حيث يوجد المحل.
كما يحق للمكري في حالة إقدام المكتري على كراء المحل التجاري من الباطن، وكانت قيمة الكراء بمقتضى عقد الكراء من الباطن تفوق الوجيبة الكرائية الأصلية، اللجوء للمحكمة قصد تقديم طلب مراجعة الوجيبة الكرائية، بعد إثبات المكري لاختلاف قيمتي الكراء، الَّتِي تُراعي في مراجعة السومة الكرائية الفرق بينهما في الرفع من قيمة الوجيبة الكرائية، ويكون هَذَا الرفع غير خاضع لأحكام قانون مراجعة السومة الكرائية، بل يبقى اختصاصًا قضائيًّا في إطار السلطة التقديرية للمحاكم، وما هو متوفر لديها من مستندات وحجج تُوضّح الفرق بين قيمة السومة الكرائية الأصلية وقيمة الوجيبة الكرائية بعد الكراء من الباطن.
طبقًا لما سبق فهل يمكن أن يتّخذ المُشرّع قانونًا أكثر شمولية لحماية المكتري والمكري والمكتري من الباطن على حد سواء أم أنّه سيبقى على المتضرّر اللجوء إلى القوة الإلهية أو القوة الوضعية؟
