مجتمع
مقال: رد المعارض على صيام الحائض

بقلم: الأستاذ محمد أيوب الهسكوري
خطيب مسجد الكوثر بطنجة
بسم الله، و الصلاة و السلام على سيدنا رسول الله، و على آله و صحبه و من والاه.
و بعد؛
فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة على صيام الحائض، فخرج علينا مجموعة من المفكرين ممن يحسبون على التيار التنويري بفتاوى شاذة، لم تعرفها الأمة الإسلامية من قبل. حيث قالوا أن الحيض لا يبطل الصوم، بل للحائض أن تصوم في رمضان و في غيره، إلا إذا كانت لا تقوى عليه.. و أن القرآن الكريم لم يقل ببطلان صيام الحائض بل هذا من اختراع الفقهاء..
و هذا القول شاع في السنوات الأخيرة ببلاد مصر، و تصدى له الأزهر الشريف بالرد و التفنيد.
لكن هذه السنة برز على الساحة الفكرية المغربية من يتبنون هذا الرأي بل و يدافعون عنه بكل شراسة و بسالة. و أطلوا علينا في وسائل الإعلام المكتوبة و عبر شبكات التواصل الاجتماعي يرعدون و يزبدون.. فأثاروا بلبلة و شوشرة عند الناس. و الناس في غنى عنها في زمن الكورونا و ما خلفتها.
و هذا الأمر جد خطير، فعندما يخرج المرء بهذه الفتاوى التي ليس لها سند شرعي صريح، و لا نظر برهاني صحيح، فهذا من التكلف المذموم في دين الله عز وجل.
و سأجمل الرد باقتضاب في النقاط التالية:
- ديننا لا يعطي حق التحريم و لا الإباحة إلا لله سبحانه وحده. بل و لا حتى لسيدنا و مولانا رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال سبحانه: ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ “.الأنعام :151
فالتحريم هو من اختصاص الباري سبحانه، أما الرسول فاختصاصه النهي فقط. قال سبحانه: ” وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا “.الحشر:7
و الآيات في هذا الصدد كثيرة معلومة. و الشاهد من هذا القول أنه لا يمكن لأحد كائنا من كان أن ينقص أو يزيد في أحكام الله تعالى تبعا لهواه.
- 2- إن التعامل مع القرآن الكريم يقتضي بالضرورة بداية الإلمام الدقيق بالسنة النبوية، إذ وظيفة السنة هي تبيين ما جاء في القرآن الكريم. بل أزيد فأقول: إن السنة النبوية المطهرة الشريفة وحي إلهامي من الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لتبيين ما أنزل الله من أحكام الشريعة في القرآن الكريم. قال سبحانه: ” وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” سورة النحل:44. فالذكر هنا جاء بمعنى السنة الشريفة.
و معنى الآية إجمالا: أن الله سبحانه أنزل بالتنجيم عن طريق الوحي الإلهامي السنة النبوية، لتبين للناس ما نزله الله في القرآن الكريم من الأحكام الشرعية.
فمثلا: جاء أمر الله (أقيموا الصلاة)، فجاءت السنة تبين عدد الصلوات و أوقاتها و عدد ركعاتها و هيئات أدائها و أحكامها المتعلقة بها.. و هكذا
فإذا علمنا هذا هكذا فتعالى -أيها القارئ الكريم- نستقرئ آية الصيام لنرى حكم الله فيها من خلال هذا المنهج.
قال الله تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ” البقرة: 183-184.
هنا شرع الله تعالى الصيام للمسلمين، و رخص للمريض و للمسافر الإفطار مع القضاء.
و لكن عند الوهلة الأولى لا نجد حكم الحائض في هذه الآية، فالمرخص لهم فقط المريض و المسافر.
و لكن إذا دققنا النظر و أمعنا الفكر سنجد أن حكم المريض تدخل تحته مباشرة الحائض.. فالمريض صاحب رخصة الإفطار هو كل من وجد مشقة في الصيام لألم ألم به أو لحالة مرضية تلبسته.. و يأخذ أوضاعا مختلفة.
فالحيض حالة مرضية تصيب المرأة تؤدي إلى خلل في هرموناتها و الذي يترتب عنه آلاما و أوجاعا.
إذا “فمن كان مريضا” تدخل فيه المرأة الحائض فتأخذ حكمه.
ثم نجد أن السنة النبوية جاءت مؤكدة و مبينة هذا الحكم. فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الصوم، باب الحائض تترك الصوم و الصلاة، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: ” أليس إذا حاضت لم تصل و لم تصم فذلك نقصان دينها“. و عند مسلم من حديث ابن عمر : ” تمكث الليالي ما تصلي، و تفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين“.
و روى مسلم أيضا في الحيض باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل تقضي الحائض الصوم و الصلاة؟ فقالت: ” كنا نؤمر بقضاء الصوم و لا نؤمر بقضاء الصلاة“.
لكن هناك من يقول منهم أن ربنا عز و جل عندما ذكر الحيض في القرآن لم يذكره على أنه مرض بل ذكره على أنه أذى فقال سبحانه: ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ” البقرة:222
و قالوا أنه هناك فرق شاسع بين المرض و الأذى و أن الله فرق بينهما في قوله سبحانه: “فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ” البقرة:196
و هذا قول مردود، حيث أن الله عز وجل لم يقل 🙁 و يسألونك عن {الحيض} ) بل قال سبحانه: ( و يسألونك عن المحيض).
و الفرق بينهما أن الحيض هي الحالة المرضية الفزيولوجية التي تتلبس بها المرأة عند الدورة الشهرية.
و المحيض هو المكان الذي يخرج من الحيض.
بمعنى أوضح: أي اعتزلوا عملية الجماع في موضع الحيض عند وقت الحيض لأنه يؤذيكم صحيا و نفسيا و طاقيا.
- 3- أجمعت الأمة عبر قرونها على أن الحيض و النفاس و الولادة من مبطلات الصوم، و أنه من الصوم المنهي عنه شرعا. و هذا ما تواترت عليه الأمة جيلا بعد جيل من لدن سيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم إلى زماننا هذا، و لم يخرج عن هذا القول صحابي أو تابعي أو أحد من العلماء عبر التاريخ سلفا و خلفا..و إن الخروج عن هذا القول لا يعني اجتهادا بل يعني تكلفا و خروجا عن إجماع الأمة لغير ضرورة.
- 4- أمتنا ليست في حاجة إلى مثل هذه الفتاوى المشاغبة و الطائشة، التي لا تزيدنا إلا ضعفا و هوانا و ابتعادا عن ركب التقدم ،و تخلق بين الناس شوشرة و حيرة هم في غنى عنها.
أمتنا في مسيس الحاجة إلى الفكر السليم البناء الذي يدفع عجلة التنمية ببلادنا و ببلاد الأمة الإسلامية قاطبة.. أمتنا تنتظر منا فكرا يجمع جميع أطيافها تحت راية إعمار الأرض.
و أخيرا أقول: إن الفكر عملية منتجة نافعة، و أي فكر لم ينتج نفعا، فهو كالأرض التي لا تنتج زرعا.
و أي نتاج فكري لا يساهم في بناء الأمة، لا يمكننا إلحاقه بمفهوم الفكر. إنما هو جعجعة كلامية فارغة باردة، لا تساوي ثمن الحبر الذي كتب به.
و الحمد لله رب العالمين.
