ثقافة
مقالات العلامة عبد الله كنون موضوع أطروحة دكتوراه ناقشها الباحث عمر الحجي بكلية آداب تطوان

نُوقِشَت أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه، تحت موضوع مقالات العلامة عبد الله كنون، جمعًا، وتصنيفًا، دراسةً، أعدّها الباحث عمر الحجي، تحت إشراف الدكتورين عبد اللطيف شهبون، ومحمد كنون الحسني، الأطروحة ناقشتها لجنة أكاديمية علمية مُكوّنة من السادة الأساتذة الدكتورة سعاد الناصر، والدكتور محمد كنون، والدكتور أحمد بوعود، والأستاذ يوسف النري، برحاب كلية آداب تطوان يومه الاثنين 22 مارس 2021، على الساعة العاشرة صباحًا بقاعة المرحوم الدكتور عبد الله المرابط الترغي مُؤسّس الدرس الأدبي المغربي بذات الكلية.
وقد تُوجّت المناقشة الَّتِي حضرها مجموعةٌ من السادة الأساتذة والطلبة الباحثين، كما حضرها نقيب الشرفاء العلميّين الأستاذ عبد الهادي بركة، بمنح الباحث عمر الحجي درجة الدكتوراه في الآداب تكوين النصّ الأدبيّ العربيّ القديم وحدة الدراسات المغربيّة والأندلسيّة.
قدم الباحث تقريرًا موجزًا عن الأطروحة أظهر فيها… تقرير المناقشة
(مقالات عبد الله كنون جمع وتصنيف ودراسة)
السّادةُ الأساتذةُ الفضلاء الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هَذَا يوم ينتظرُه كلُّ باحثٍ، ويستحثُّ وصولَهُ، ليرى حصادَ زرعِهِ ونِتاج جُهدِه، حتّى إذا وصلَ الميعادُ أحسّ بغير قليلٍ من الخشية والترقُّب والإشفَاق، مهما بذلَ من جُهدٍ واسْتفرغ من وُسع وطاقة، إذ يَتوارى أمام ناظرَيْه كلُّ ما أنجَز، ليَمثُلَ فقط شاخِصًا متربّصًا ما لم يُنجَز، أو ما غابَ عن أفُقه ونظرِهِ ساعة الإنجاز، ثم إنَّ نظرَ السّادةِ الأساتذة أعضاءِ لجنة المناقشة دون شكّ أكثرُ اتساعًا من نظره، وعلمَهُم أكثرُ من علمه، فلا شكّ سَيرون من هَذَا البحث ما قصَرَ هو عن رُؤيته. غير أنَّ غايةَ ما يَتمنّى الباحثُ في مثل هَذَا الموقف، أن تكونَ مواطنُ الإحسَان في عمله أكثر من مواقعِ الإساءة، ومواطنُ الإنجاز أكثر من مَناحي التّقصير.
وإذا كان الطالبُ الباحثُ بدايةً مُطالبًا بالكشفِ عن دَواعي وأسبابِ اختيارهِ للموضُوع، وهي الأسبابُ الَّتِي تظلُّ حاضرةً بشكلٍ ظاهرٍ أو مُستتر؛ طيلةَ مراحلِ إنجازِ عملِهِ، إذ تكمُنُ في صَميمِ القصديّةِ المُوجّهة لكلّ عملٍ، فإنّ بحثا يُنجَزُ حول تراثِ العلامة «عبد الله كنون» لا يحتاجُ إلى تسويغٍ أو تبرير، إذ يحملُ مصداقيّتَهُ وحِجيّتَهُ في داخلهِ، ولسانُ حَالنا قولُ «المتنبي»: وليسَ يَصحُّ في الأفهام شيءٌ / إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل. بل إن تُراثَ العلامة «عبد الله كنون» مُسْتَغنٍ بذاته عن أي تبرير، مُكتفٍ بثرائهِ وعُمقهِ عن أيّ دفاع أو تقرير. فهَذَا التراثُ الحفيلُ والخصيبُ، يحتاجُ إلى دراسَاتٍ وأبحاثٍ؛ مُتعدّدةِ المشاربِ مُتباينةِ المناهج، للإحاطة بتنوُّعهِ المَوضوعيّ وغناهُ المعرفيّ وإحكامه المنهجي.
غير أنّ ما يمنحُ المَعنى لهَذَا العمل، ويجعلهُ واجبًا مَفروضًا، لا اختيار معه، هو أنه تصدّى لدراسة جانبٍ من تُراث العلامة «عبد الله كنون» طالما تعرّضَ للإهمال والنسيان، وهو جانب الدّراسَات والمقالات المُوزّعة في بطون المجلات العلميّة، إذ غالبًا ما يتمُّ الاحتفاءُ بالكتابات المطبوعة، الَّتِي عرفت انتشارًا واسعًا في المشرق والمغرب، وبخاصّةً كتاب «النبوغ المغربي في الأدب العربي» عُمدَةُ كتُبهِ وجوهرةُ الأدَب المغربي الحديث. أمَّا الدراسات والمقالات فلا يصلُ إليها إلا المتخصّصون، أمَّا عمومُ القراء والمهتمين، فلا يعرفون معظمها، بل لا يعرفون المجلات الَّتِي نُشرت فيها وتوقّف صدورها منذ عقود من الزمن، أو صدرَ منها آحادُ الأعداد ثم توقفت. والرهانُ من هَذَا الاختيار، هو الكشفُ عن ملامح من ثقافة العلامة «عبد الله كنون» ذُهِلَ عنها من تعرّفَ عليه من خلال كتبه الأدبيّة ذائعة الصيت. وهي ثقافةُ الفقيهِ والأصوليّ والمُفسّر واللغوي والبلاغي.. أو لنقل: إنها الثقافةُ الموسوعيّةُ الشاملةُ، الَّتِي تُعتبَرُ العلامَةَ المُميّزةَ للتراث العربيّ الإسلاميّ في تاريخهِ الطويل.
وبالإضافةِ إلى هَذِهِ الأسبابِ الموضوعيّة، تتوارى ولا شكّ أسبابٌ ذاتيّةٌ خالصَةٌ، تتمثّلُ في هَذَا الشّغف بالأدب المَغربي وتراثه، وهَذَا الانجذابُ إلى أعمال العلامة «عبد الله كنون» خاصة، الَّتِي يجدُ فيها القارئُ الكثيرَ من المَتاع الفني والجمالي، إضافة إلى زخمٍ معرفي وعلمي لا يخفيان عن الناظر. كما أنَّ أساتذتنا الكرام شجّعونا على سلوك هَذَا الطريق، واقتحام هَذِهِ المجاهل، وجعلونا نؤمنُ بعَظمة ما خلّفه الأسلافُ من تراث أدبي وعلمي.
ولا شكّ أن جوهرَ الأطروحة؛ يتجلى في مُحاولةِ حصر مقالات العلامة «عبد الله كنون» العلميّة، المُوزّعة في مخُتلف المجلات المَغربية والمشرقية، بل في مختلف الأقطار والقارات، ثم بعد ذلك؛ تصنيفُ هَذِهِ المَقالات، وترتيبُها حسَب القضايا والإشكالات، والاتّجاهات الأساسيّة، والعناوين الكبرى. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ تحليلُ بعضِ النماذج، من أجل الوقوفِ على خصائصها الأسلوبيّة، وبناءاتِها المنطقيّة وأسُسِها المنهجية. وهَذَا ما جعلَ العملُ يقعُ في بعض الاضطراب، نتيجةَ جَمْعهِ بين النشاط التقنيّ والإجرائيّ، الَّذِي يتمَثّلُ في التجميع والتصنيف والتصفيف، وبين العمل التحليلي المنهجيّ، الَّذِي يتمثل في قراءةٍ منهجيّةٍ لبعض المقالات، والكشفِ عن خصائصها وسماتها. ومن ناحيةٍ ثانية، التوتُّر بين الحديثِ عن الملامح العامة لفكر عبد الله كنون وأدبه، وبين التطرُّق إلى بعض القضايا الجزئية، والنماذجِ الخاصة. فبقدر ما حاولنا اتّباع نهجَ الاستقصاء في تجميع هَذِهِ المقالات وتصنيفِها، كنا مُضطرين إلى سلوكِ نهجِ الانتقاء والاختزال في دراسةِ بعض النماذج، ما يطرحه الانتقاء من عائق التعميم والخروج بخلاصات جامعة من خلال أنماطٍ فرديّةٍ.
إنَّ الباحثَ في تراث العلامة «عبد الله كنون»، هو كالمسافرُ في بحر مُترامي الأطراف، مُتلاطمِ الأمواج، أمام غزارةِ المادّة العلميّة، وضخامة الإنتاج الأدبي والفكريّ لهَذَا العالم الفذ، إذ لا يتعلقُ الأمرُ بعشراتِ المقالات، ومئات الصفحات، كما هو الأمر عند معظم الدارسين، بل إنّ الأمرَ يتعلّقُ بمئات المَقالات والبحوث، والآلاف من الصّفحات، وعشرات المجلات المُوزعة عبر أقطار الأرض، وهكذا كان العائقُ الأوّلُ هو عائقُ الحَصر والاستقصاء، فهَذَا مشروعٌ ينوءُ بحملهِ العُصبَةُ من البَاحثين، وإذا تجاوزنا عقبَةَ التّجميع. فكيفَ السّبيلُ إلى تصنيف هَذِهِ الأعمال تحت عناوينَ رئيسَةٍ، مع وجود سِمَةُ التداخُل الَّتِي تطبع مقالات عبد الله كنون، فهَذَا تاريخٌ إلى الأدب أقرب، وذاك أدبٌ في قالبٍ من التاريخ، وهَذِهِ مسألةٌ فقهيّةٌ تتعلّقُ بقضيّةٍ لغوية، أو مسألة لغويّة ترتبط بقضيّة في تفسير القرآن أو شرح بيت من الشعر.. وهكذا.
ومن ثَمَّ كان التّصنيفُ في جوهره ضربًا من ضروبِ التأويل، إذ يحتاجُ الأمرُ إلى قراءةٍ مُتمعّنة للدّراسَة أو المقال، من أجل وَضعها في المكان الصّحيح…. كما أنّ معيارَ التّصنيفِ يطرحُ بدوره إشكالاتٍ كثيرةً، فهناك المعيارُ الزّمني، ومعيارُ المَصدر والمرجع، ومعيار الأسلوب، ومعيار المنهج، ومعيارُ المَوضوع.. وهو الَّذِي استقرّ عليه البحثُ آخر الأمر، بتوجيهٍ من الأستاذ المُشرف. وبعد التجميع والتصنيف، كان لا بُدَّ من اختيار بعضِ النماذج، من أجل قراءةٍ تحليليّةٍ تكشفُ عن خصائصِ اللغة والأسلوب، وماهية المَنهج والبناء، وفنون الاستدلال والحجاج، والانتقاءُ قطعةٌ من عقلِ المرء كما قال القدماء. وهَذِهِ كلها عقباتٌ وكداء حاولنا تجاوُزَها بالاستشارة مع أساتذتنا الفضلاء، الَّذِي لم يبخلوا علينا بالنصح والتوجيه والإرشاد.
وبعد سياحةٍ مُمتعةٍ في صحبةِ المقالات الكنونيّة، شكّلت لنا فرصة غانمةً للاستفادة والتكوين، قبلَ أن تشكّلَ موضوعًا للبحث والتحليل، وقرَتْ في نفسِ الباحثِ مجموعةٌ من النتائج والخلاصات: من هَذِهِ النتائج تصحيحُ الصُّورةِ النمطيّةِ عن العلامة «عبد الله كنون» كونَهُ عالمًا تقليديًّا متخصصًا في تاريخ الأدب والنقد الأدبي، وهي الصُّورةُ الَّتِي استخلصها الدارسون بكثيرٍ من العجلةِ والتسرُّع من خلال النظر في إنتاج «عبد الله كنون» المطبوع والمتداول. وكأنَّهم اختصروا هَذَا العالمَ الكبيرَ في أعماله الأدبيّةِ، وفي كتاب «النبوغ المغربي».
والحال، أنّ صُورة «عبد الله كنون» لن تكتملَ إلا بدراسةٍ وافيةٍ لمجموع مقالاته، وهو ما يحتاجُ إلى تضافُر الجهود، وتواتُرِ الأبحاث والدراسات، فخلافا لمصنفاته المطبوعة المشهورةِ، الَّتِي تدورُ في معظمها حول الأدب المغربي وتاريخه، فإنّ مقالات العلامة «عبد الله كنون» تشمَلُ مناحي المعرفة الإنسانيّة المُتاحةِ في عصره، إذ تغطي مجالات التاريخ، والفكر، والأدب، واللغة، والدين، والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والتحقيق التاريخي، علاوةً على مقالاتٍ وخطبٍ في مختلف المناسبات الدينيّة والوطنيّة.
من هَذِهِ النتائج ما يطالُ مسألة الكم، ذلك أنَّ ما كتبه العلامة «عبد الله كنون» في الأدب والنقد الأدبي، يُعَدُّ يسيرًا منزورًا، بالقياسِ إلى باقي المجالات، وخاصة على مستوى اللغة والتاريخ والتفسير، ولو أنّ مقالات «عبد الله كنون» وهي بالمئات جُمّعت وصُنّفت، وخرجَت في مجلدات مطبوعة، لتغيّرَ النظرُ إلى تراث العلامة عبد الله كنون بالكليّة، ولأصاب الدهش معظم الباحثين الَّذِينَ يعتقدون أنهم على دراية شافية بأعمال عبد الله كنون.
ومما وقرَ في نفس الباحث أيضًا، بعد طول مخالطة ومدارسة لمقالات عبد الله كنون، أنَّ المقالات الكنونية هي الأكثرُ تعبيرًا عن شخصيّة هَذَا العالم الفذّ، وعن تطوُّر فكرهِ، ونموّ ثقافته، واتّساع أفقه، ونفاذ آرائه، إذ يمكنُ كتابةُ السّيرةِ الفكريّة والأدبية للعلامة «عبد الله كنون»، من خلالِ هَذِهِ المَقالات والأبحاث، إذ تَنطوي على الكثير من التفاصِيل الَّتِي تهمُّ حياتَه الشخصيّة، وتجربتَهُ الذاتيّة على مستوى علاقتِهِ بالأدباء والعلماء في عصره، أو اتّصالِهِ بالقادةِ الوطنيّين والزعماءِ السّياسيّين، أو انفتاحِهِ على زعماء الإصلاح في العالم العربي.
ومن مناقبِ هَذِهِ المَقالات أيضًا، أنَّها تتجاوز الإحالة على ثقافةِ «عبد الله كنون» ومعاركه الفكرية والأدبيّة، وتجاربه السياسيّة والوظيفيّة، لتٌقدّمَ لنا صورةً شاملةً وصادقةً عن الحياةِ الأدبيّة والفكريّة في المغرب، والعالم العربي الإسلامي على عهد العلامة عبد الله كنون.
وفي الأخير أتقدم بآيات العرفان والامتنان إلى المُشرفَيْن على هَذَا العمل: فضيلةِ الدكتور العالم محمد كنون الحسني الَّذِي تعهّدَ هَذَا البحثَ في مرحلةٍ حاسمةٍ، وما زالَ يرشدُ الباحثَ ويأخذ بيده، حتّى أوصله إلى برّ الأمان، وفضيلةِ الدكتور الألمعي عبد اللطيف شهبون الَّذِي وضعَ الباحث على سكّة البحث العلمي، وشجّعهُ على اقتحام مجاهلهِ، كما أتقدّم بعظيم الشكر والتقدير، لأعضاء اللجنة العلميّة الموقرة فضيلةِ الدكتورة الأديبة سعاد الناصر، وفضيلة الدكتور الناقد يوسف الناوري، وفضيلة الدكتور المفكر أحمد بوعود، على صبرهم وعنايتهم بهَذَا العمل ولسان حالي في شكرهم قول الشاعر:
رهنْتُ يَدِي بالعَجْز عن شُكْرِ بِرّهِم ** وما فوْقَ شُكري للشّكُور مَزيدُ
ولو كان شيئًا يُسْتطـــــاعُ اسْتطعتُهُ ** ولكـــنَّ مَا لا يُسْتـــــطاعُ شَدِيـــــــدُ

