آخر الأخبار
ما السبب الحقيقي لتحرك الزورق السياحي بعيدًا عن الضحايا؟ ولماذا اختفى أخريف والحراق عن أنظار المنقذين؟ مأساة ريستينكا.. القصة الكاملة لفاجعة غرق لاعبي اتّحاد طنجة التي أثارت تعاطف العالم
ما زالت مدينة طنجة تعيش على وقع صدمة الحادث المُفجع، الَّذِي راح ضحيته 3 من لاعبي اتّحاد طنجة، أحدهم تمَّ إنقاذُه، واثنان اختفيا عن الأنظار وسط مياه شاطئ «ريستينكا» بجوار مارينا سمير التابعة لإقليم المضيق – الفنيدق، وذلك بعدما كان اللاعبون في رحلة للاستجمام رفقة شخصين آخرين بتاريخ 6 يوليوز 2024، قبل أن تنقلب الظروف المناخيَّة رأسًا على عقب، ما أدَّى إلى بقائهم وسط المياه يصارعون الأمواج ويَرَون الموت مباشرة، وهو سيناريو أشبه ما يكون بفيلم «رعب» جعل هَذِهِ المأساة حديث العالم وأحاط عائلات الضحايا ومعها الفريق الطنجي بالكثير من التعاطف وبالدعاء على أمل أن تنتهي القصة على خير رغم أن حدوث «معجزة» أمر مستبعد.
القصة أحيطت منذ لحظتها الأولى بالكثير من الغموض والالتباس، انطلاقًا من عدد اللاعبين الَّذِينَ كانوا على متن «الرحلة المشؤومة»، والظروف المناخيَّة الَّتِي غادروا فيها الميناء الترفيهي الشهير بنواحي مدينة تطوان، متّجهين صوب المجهول في عمق البحر الأبيض المتوسط، بل إنَّ الغموض اكتنف أيضًا ما حدث للضحايا وهم وسط البحر والطريقة الَّتِي تمّ بها انتشال الناجين منهم، وهي كلها أمور تحاول أسبوعيَّة «لاديبيش» من خلال ملف هَذَا العدد، الوصول إلى صورتها الأكثر وضوحًا وإعادة بناء سيناريو الفاجعة بالكامل، استنادًا إلى معطيات وتصريحات دقيقة من مصادر محلّيَّة ومن محيط المعنيين بالأمر، كما تُنشر مجموعةٌ من المعلومات لأوَّل مرّة وبشكل حصري.
- البداية كانت هادئة
وبدأت الحكاية يوم الجمعة 5 يوليوز الجاري، حين قرَّر 5 أشخاص ينتمون بشكل أو بآخر إلى فريق اتّحاد طنجة، التوجّه إلى مارينا سمير، الميناء الترفيهيّ التابعة لعمالة المضيق – الفنيدق، في خرجة استجمامية عبر زورق ترفيهيّ صغير، ويتعلَّق الأمر بكلٍّ من عبد اللطيف أخريف، لاعب الفريق الأول لاتّحاد طنجة هو من مواليد سنة 2000، وعبد الحميد معالي الَّذِي التحق بدوره بفريق الكبار بعد تألّقه مع المنتخب الوطني المغربي لأقل من 17 عاما (فتيان) في كأس أمم إفريقيا 2023 في الجزائر وكأس العالم 2023 في إندونيسيا، واستدعاؤه للمنتخب الوطني لأقل من 20 سنة (شبان)، أمَّا اللاعب الثالث، الَّذِي ينتمي لفريق الأمل فهو سلمان الحراق، وكانت الإدارة التقنيَّة للنادي قد اتَّخذت قرارَ تصعيده للفريق الأول مُؤخرًا.
وعلى عكس ما تمّ ترويجه حينها، فإنَّ الرحلة كانت تضمُّ 5 أشخاص وليس 6، أمَّا العنصران الآخران فهما أسامة الفلاح، وهو مُؤطّر في الفئات السنيَّة للفريق، وسليمان الدهدوه، وهو أحد منخرطي اتّحاد طنجة، وهَذَا الأخير من الناحيَّة العملية فإنَّه كان المشرف على الرحلة والشخص الَّذِي تولَّى ترتيب أمورها، وقد ظهر 4 من أصل 5 من الضحايا في صورة جماعيَّة مساء الجمعة، أي قبل أقل من يوم واحد على حدوث المأساة، وهي صورة التُقطت لهم في مارينا سمير، وكان فيها كل من أخريف ومعالي والفلاح والدهدوه، وقد باتوا جميعًا في مسكن واحد إلى جانب اللاعب الشاب سلمان الحراق.
وقضى الخماسي أمسيَّة تسامروا فيها، وحسب روايات بعض الناجين، فإن سلمان الحراق تحديدًا كان سعيدًا جدًا بقرار تصعيده إلى الفريق الأول لاتّحاد طنجة، أمَّا عبد اللطيف أخريف، الَّذِينَ لا يتعدى سنه 24 عامًا، فاختار أن يحكي لأصدقائه تجربته مع اتّحاد طنجة وعبَّر عن أمله في أن يُسهم تألقه مع الفريق الأول في تحسين الظروف الاجتماعيَّة لعائلته وخاصّةً والدته المريضة، وكان الجميع فرحين بانتهاء الموسم على خير مع ضمان الفريق بقاءه في قسم الصفوة، كما كانوا متحمّسين لجولتهم السياحيَّة في اليوم الموالي، خصوصًا أنَّهم أصبحوا يرون أن الجوَّ يبدو جيّدًا ولن يكون هناك مانع لخروجهم.
وحسب شهادة الناجين وبعض المُقرّبين منهم، فإنَّ الرحلة نحو «الحادث الأليم»، بدأت مبكرًا صباح يوم السبت 6 يوليوز الجاري، وكان اللاعب أخريف من بين أوّل المستيقظين لتحضير وجبة الفطور وصلاة الصبح الَّتِي أداها رفقة اللاعب الحراق، قبل أن يتوجّهوا جميعًا إلى مارينا سمير حيث كان الزورق السياحي في انتظارهم، وعلى عكس ما كان رائجًا حينها فإنَّ الخرجة كانت مضبوطة من الناحيَّة القانونيَّة، ومن تولى ذلك هو سليمان الدهدوه الَّذِي أخبر السلطات بالرحلة وسلمهم نسخًا من بطائق التعريف الوطنيَّة للأشخاص الخمسة، وكان الجوّ حينها مشرقًا ويدعو إلى التفاؤل لذلك انطلقوا جميعًا دون خوف، وهو عامل حاسم ساهم في تشجيعهم على الابتعاد إلى عمق شاطئ ريستينكا.
- في مواجهة المجهول
بعد زوال يوم السبت بدأت رحلة الشبان الخمسة إلى عمق شاطئ ريستينكا، وبما أنَّ الأجواء كانت حينها تبدو مناسبة، فإنَّهم لم يترددوا في الابتعاد عن الشاطئ، ومع ذلك فإنَّ شهادات الناجين منهم سواء في عين المكان أو بعد عودتهم إلى طنجة، تُؤكّد أنَّهم حين توقَّفوا وسط المياه كان الشاطئ على مرمى بصرهم، وأنَّهم تاهوا بعد أن نزلوا إلى المياه جراء الرياح العاتيَّة الَّتِي بدأت تهب على المنطقة، الَّتِي كانت سببًا رئيسيًّا في حدوث الكارثة، وهي نفسها الَّتِي أدت إلى هرب الزورق السياحي عنهم نتيجة أخطاء في عملية تثبيته إلى قعر الشاطئ.
والمعطيات الَّتِي تحصلت عليها الجريدة، تفيد بأنَّ الزورق ابتعد إلى ما بعد المنطقة الآمنة المُحدّدة من طرف السلطات البحريَّة بواسطة طوافات اصطناعيَّة كرويَّة الشكل يكون لونها أصفر، وتُحدد الموقع الأقصى الَّذِي لا يُنصح بتجاوزه من طرف الزوارق الَّتِي تتحرّك في منطقة مارينا سمير أغراض سياحيَّة، لكن الخماسي حين تعدَّى تلك الحدود بواسطة زورق صغير نسبيًّا أصبح لا يتوفر على المعدَّات الضروريَّة لضمان سلامة الركاب، ومن هَذَا المنطلق فإنَّ محاولة تثبيته بواسطة مخاطيف المرساة في الأحجار الموجودة في عمق البحر باءت بالفشل، لأنَّها أبعد من أن يتم الوصول إليها وبالتَّالي فإنَّه عند هدوء أحوال الطقس يتوهّم الرُّكّاب أنَّ الزورق ثابتٌ، لكنَّه في الحقيقة يتحرّك مع أوّل موجة رياح.
هَذَا السيناريو بالضبط هو الَّذِي حصل للضحايا الخمسة، والحكاية كما تمَّ نقلها على لسان اللاعب عبد الحميد معالي، الناجي الأول والشاهد الرئيسي على ما وقع، هي أنَّ جميع الموجودين سارعوا إلى القفز في المياه من أجل السباحة في الوقت الَّذِي كان فيه الجو صحوًا، لكنَّه عاد بسرعة إلى الزورق لأنَّه شعر أنَّه ليس في حالة جيّدة تسمح له باستكمال السباحة، وفجأة تغيَّرت الظروف الجويَّة بسرعة كبيرة، حيث تحرَّكت الرياح باتّجاه الشرق وصار الزورق الَّذِي كانت محركاته متوقّفة يبتعد عن المكان الَّذِي كان يسبح فيه الضحايا الأربعة الباقون، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صاروا يصارعون الأمواج تحت أنظار معالي الَّذِي كان ينظر إليهم عاجزًا على فعل أي شيء، لأنّه لا يعرف كيف يشغل الزورق.
وحسب شهادات متقاطعة جمعتها «لاديبيش» فإنَّ معالي لم يعرف مكان سترات النجاة لرميها إلى رفقائه في عرض البحر، لذلك بقي محتارًا كيف يتصرّف، ثم اهتدى إلى فكرة الاتِّصال بشخص ما لعلّه يُريه كيف يتم التعامل مع الزورق ليحاول تشغيله، وبالفعل نجح في الاتِّصال بأحد معارفه بالصوت والصورة عبر تطبيق واتساب رغم أنّ شارة الإنترنت كانت محدودة، ومع ذلك لم ينجح في إعادة تشغيل الزورق في حين كان الوقت يمرّ بسرعة وكان يعاين زملاءه وهم يبتعدون عنه أو في الحقيقة هو الَّذِي كان يبتعد عنهم غير قادرٍ على التدخّل بأي طريقة.
- الارتباك والتعب والأمواج
وفي هَذَا الوقت أصاب الارتباك بعض الموجودين وسط المياه جراء الأمواج الَّتِي كانت تدفع أجسادهم نحو المجهول، ففجأة أصبحوا لا يرون لا الشاطئ ولا ماريا ولا الزورق الَّذِي كان يحملهم، وصارت الأفكار السيئة تحيط بهم، وحسب شهادة المُؤطّر بالفئات الصغرى لفريق اتّحاد طنجة، أسامة الفلاح، وهو أحد الناجين، فإنَّ أكثر شخص كان الثبات الانفعالي حاضرًا لديه هو عبد اللطيف أخريف، حيث حاول طمأنة زملائه بأنَّهم قريبون من بعضهم وطلب منهم قراءة القرآن الكريم والتوجّه إلى الله بالدعاء لإخراجهم من هَذِهِ المحنة، ثم كان أوّل من طلب منهم أن ينطقوا الشهادتين فلعلهم يكونون على موعد مع مغادرة الدنيا، وذلك بعدما أصبح الأمل يتراجع بسرعة.
ولم يجد الضحايا الأربعة أي وسيلة أخرى للنجاة بأنفسهم إلا بالسباحة نحو البرّ، لكن المهمّة كانت صعبة جدًا بل أقرب إلى المستحيل، لأنَّ التقديرات تشير إلى أنَّهم كانوا بعيدين عن الشاطئ بمسافة تتراوح ما بين 800 و900 متر، بالإضافة إلى أنَّ الاتجاه الصحيح الَّذِي من المفروض أنَّهم سيسبحون فيه لم يكن معروفًا لديهم، لذلك كان اللاعب سلمان الحراق أول شخصٍ يختفي عن أنظار الباقين بعدما حاول جاهدًا السباحة في اتجاه الزورق، لكنه لم يصل إليه قطُّ، أمَّا اللاعب عبد اللطيف أخريف فاتّجه نحو الشاطئ بالفعل لكن حسب ما رواه زميلاه الناجيان فإنَّه بعدما قطع مسافة طويلة ظهر عليه أثر الإرهاق وشاهدوه وهو ينزل إلى أسفل المياه.
أمَّا أسامة الفلاح، وحسب روايته، فإنَّه ظلّ يصارع الأمواج محاولًا السباحة في اتجاه البرّ، وظلّ يقاوم كثيرًا قبل أن يفقد وعيه، ولم يستفق إلا وهو في المستشفى، وتأكّد بعد ذلك أنه جرى إنقاذُه من طرف مصالح الدرك الملكي، في حين أنَّ سليمان الدهدوه قاوم كثيرًا للوصول إلى الشاطئ قبل أن تخور قواه هو الآخر، وتمّ إنقاذُه من طرف السلطات البحريَّة لكنه كان ما زال في وعيه، وقد أكَّد مقربون منه، أنَّه كان في حالة نفسيَّة سيئة؛ لأنَّه عاين المشهد من بدايته إلى نهايته وسط الأمواج، وطارده الكابوس طوال الأيّام الموالية بعدما وجد نفسَه عاجزًا عن فعل أي شيء لأصدقائه.
الوحيد الَّذِي استطاعت السلطات البحريَّة الوصول إليه سالمًا هو اللاعب عبد الحميد معالي، الَّذِي ظلّ محتميًا بالزورق السياحي منتظرًا ظهور الفرج، ليتمّ انتشاله سريعًا بمجرد ما توصّلت عناصر الدرك والبحريَّة الملكيَّة بنداء الاستغاثة، وكان حاضرًا في مارينا سمير وهو في حالة صدمة وظلّ هناك إلى الليل يترقّب عمليات الإنقاذ لعلّ الأخبار السعيدة تأتيه بإنقاذ زميليه في الفريق عبد اللطيف أخريف وسلمان الحراق، اللذان استمرّ البحث عنهما إلى ما بعد منتصف الليل خلال اليوم الأول لاختفائهما، واستمرَّ بالرَّغم من الظّلام الدامس والظُروف المناخيَّة المتقلّبة، وكانت الساعات تمرّ بطيئةً ومعها يُفقد الأمر في العثور عليهما حيين.
- في انتظار المعجزة
وتحوَّلت قضيَّة اللاعبين المختفيين إلى قضيَّة إنسانيَّة تشغل الرأي العام الوطني والدولي، خصوصًا بعد تزايد الاهتمام الإعلامي بالموضوع الَّذِي أصح تراجيديًا عبر صداها حدود المغرب، وكانت الليلة الموالي للفاجعة ليلة بيضاء بالنسبة لعائلات الضحايا، الَّتِي انتقل أفرادُها إلى ميناء مارينا سمير الترفيهي في لتتبع عمليات الإنقاذ، وهو الأمر الَّذِي استدعى أيضًا تنقل رئيس الفريق، محمد الشرقاوي إلى عين المكان رفقة فعاليات من النادي الطنجي، هو تحرك أسهم قليلا في محاصرة الشائعات الَّتِي ظلَّت تتردد بخصوص العثور على جثتي اللَّاعبين، بعدما نفى إداري الفريق وفي مقدمتهم رئيسه هَذَا المعطى، مُؤكّدين استمرار البحث رغم تضاؤل الآمال في العثور عليهم أحياء.
وفي اليوم الموالي، أكَّدت مصادر من البحريَّة الملكيَّة، أنَّها خصصت 3 زوارق سريعة لتمشيط سواحل شاطئ ريستينكا والمياه القريبة من مارينا سمير، كما جرى الإعلان عن مساهمة السلطات الإسبانيَّة في عمليات البحث على مستوى سواحل إقليم سبتة، مخافة أن تكون المياه قد رمت بجثّة اللاعبين المفقودين إلى هناك، لكن كلّ ذلك لم يؤدِ إلى العثور عليهما، وفي المقابل بدأت تظهر العديد من التخمينات بخصوص احتمالات ما بعد اختفائهما، الأكثر ترجيحا اثنتان منها، الأولى تتخوف من أن تكون الجثتان قد اعترضتا طريق أسماك الأوركا الَّتِي تزايدت أعدادها مؤخرًا في مضيق جبل طارق، وبالتالي إمكانيَّة التهامها واختفائها للأبد، أمَّا الثانيَّة فتطرح احتمال توجّه الجثتين باتّجاه الشرق حسب اتجاه الرياح حينها ما يعني إمكانيَّة وصلهما إلى سواحل مدينة السعيديَّة أو حتّى تجاوز الحدود البحريَّة باتّجاه المياه الإقليميَّة الجزائريَّة.
ومع توالي الأيام خلال الأسبوع الماضي، بدأت الآمال في العثور على جثتي للاعبين تتضاءل، خصوصًا أنَّ البحث شمل مساحات واسعة من مياه إقليم المضيق الفنيدق خلال الـ48 ساعة الموالية، لذلك، وحسب المعطيات الَّتِي توصّلنا بها، فإنَّ عملية البحث انتهت عمليًا في اليوم الثالث، ولم يعد أمام السلطات وعائلتي الضحيتين سوى الانتظار لعلَّ حركة الرياح تُلقي بالجثتين إلى الشاطئ على اعتبار أنَّ العثور عليهما حيين في الوقت الراهن يتطلب أمرًا أشبه بالمُعجزة.
وبعدما كتبت هَذِهِ الواقعة نهاية مأساويَّة لطموحات لاعبين شابين، كان المستقبل أمامهما لتطوير موهبتهما، سواء مع اتّحاد طنجة بالنسبة لعبد اللطيف أخريف، أو بالنسبة للفئات السنيَّة للمنتخب الوطني بالنسبة لسلمان الحراق، فإنَّها أيضا لفتت الأنظار إلى حالات الغرق المأساويَّة الَّتِي تشهدها شواطئ الأقاليم الشمالية للمملكة، الَّتِي أصبحت تتطلب إمكانيات أكبر لرصدها والتدخّل الفوري من طرف السلطات للحيلولة دون وقوع الأسوأ، لكنها أيضًا تستدعي من المصطافين الابتعاد عن مغامرات محفوفة بالمخاطر قد تكون نهايتها عبارة عن مأساة.