تواصل معنا

مقالات الرأي

ماشطة ابنة فرعون

لعلّ أغلبنا يعرف قصة المرأة «ماشطة ابنة فرعون» الَّتِي لم يحفظ التَّاريخ اسمها، بل حفظ فعلها. وتروي هَذِهِ القصة أنَّ امرأة من قوم سيدنا موسى (عليه السَّلام) كانت تمشّط شعر ابنة فرعون، فسقط المشط من يدها، وعندما انحنت لتلتقطه، قالت بسم الله، فقالت ابنة فرعون أبي؟ قالت الماشطة ﻻ بل ربّي وربّك وربّ أبيك.

فذهبت البنت وأخبرت أباها بذلك، فنادى فرعون الماشطة، وسألها مَن ربك؟ فقالت ربّي وربّك الله، فأمر فرعون بغلي زيت بقِدْرٍ كبيرٍ وإحضار أولادها الثَّلاثة، وابنها الرَّضيع بينهم، فبدأ بأكبر أولادها وحملوه الحرس ووضعوه فوق الزَّيت المغلي، وقال لها فرعون من ربّك؟ فقالت ربي وربّك الله. فألقي بولدها الأوّل حتّى طافت عظامه فوق الزَّيت.

فجيء بالولد الثَّاني وسألها من ربّك قالت ربّي وربّك الله.. فألقي ولدها الثَّاني حتّى طافت عظامه هو الآخر، وجيء بابنها الرَّضيع وحملوه ووضعوه فوق الزَّيت وكانت الماشطة تحبّه أكثر فسألها فرعون من ربّك؟

فسكتت وحنّ قلبها وشفق على ابنها، فأوحى الله للرضيع أن يتكلّم، ولم تسمعه إلا هي وقال ﻻ تخافي يا أماه، وقولي ربّي وربّك الله فأنت تقولين الحقّ.. فنطقت الماشطة، وقالت بكلّ عزيمة ربّي وربّك الله. فألقي الرَّضيع وطافت عظامه، ثُمَّ أخذها الحرس وألقوها بالزَّيت كأولادها وماتوا جميعًا، ثم حملت عظامهم ورميت بوادٍ.

وبقية القصة، أنه حين أُسري بالرَّسول (صلى الله عليه وسلم) وكان مع جبريل (عليه السَّلام) مرّوا فوق ذلك الوادي فأشتم الرَّسول (صلى الله عليه وسلم) رائحةً طيّبةً كالعنبر، فسأل جبريل ما هَذِهِ الرَّائحة ما أطيبها.. فقال جبريل تلك رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها.

ويستفاد من قصة ماشطة ابنة فرعون، في عصرنا هَذَا، أنّ الصَّبر على البلاء أسمى ما يُمكن أن تمتازَ به الخصال الإنسانية النَّبيلة، وأنَّ التَّسليم للقضاءِ والقدر هو من أوثق روابط العقيدة بين العبد وربّه، وأنّ الاضطرابَ الرَّوحيَّ، الَّذِي يعاني منه أغلب النَّاس اليوم، سببه إرضاء النَّفس من أجل إدراك غاية مُؤقّتة لا تنتهي حتّى يبدأ البحث عن أخرى بكلّ السُّبل.

قصة ماشطة ابنة فرعون وإن حملت ما حملته من روايات متعدّدة، يبقى جوهرها واحدًا، وهو الوصول بالنَّفس إلى مقام اليقين والتَّصديق فيما جرت به المقادير، مع الثَّبات على كلمة الحقّ والدِّفاع عن المبدأ، الَّذِي يؤمن به الإنسان قولًا وفعلًا، على عكس ما نراه اليوم من مُحاباة للحقّ ونزع الباطل لأسباب مادية، الَّتِي أوقعت أغلب الفئات في قنط العيش والتَّذمر من سوء الحال والمنقلب.

ما نعيشه اليوم من مخلفات الوباء وباقي الأضرار الأخرى، وكيفية تعايش النَّاس معه، يظهر أنَّ فئاتٍ كبيرةً، فقدت يقينها بهَذَا الاختبار ووجهت جهدها الكبير في الدِّفاع عن ماديات الحياة، وهَذَا يعكس الصُّورة الَّتِي تحوّل إليها النَّاس بعد مرورهم بفتنٍ مُختلفةٍ، لا نحتاج إلى صبرٍ كصبرٍ ماشطة ابنة فرعون، لكن نحتاج إلى جُرعاتٍ من اليقين لمواصلة السَّير في الأرض والثَّبات على الحقّ، ولو كلّف ذلك ما كلف، وألا تتحوّل محنتنا إلى نقمة نرجو منها خلاصًا مُؤقتًا.

ما نحتاجه اليوم وبصدق، هو الموازنة بين المادي والرَّوحي في جميع الأمور، وترك كثرة الشَّكوى من الحال كي لا نحصد جيلًا نصفه مسلوب العقل بالماديات الجديدة، والنِّصف الآخر لا يهمّه من صبر ماشطة ابنة فرعون، إلا الخلاص من الحياة والهروب السَّريع من المواجهة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

تابعنا على الفيسبوك