مقالات الرأي
سبتة العالمة

على الرغم من التحوّل الكبير الَّذِي عرفته المدينة، منذ عصرها المغربيّ الإسلاميّ وإلى يوم الناس هَذَا، فلم تفقد المدينة مكانتها العلميّة والروحيّة عند فئات كبيرة من المغاربة، خاصّة المطلعين على تاريخ نهضتها وصبغتها العلمية الَّتِي ميّزتها عن سائر المناطق الشماليّة للمملكة، تاريخ ما زال بعض أهل العلم يتغنّى به عند كلّ مناسبة تُتاح للحديث عن ملامح المدينة في شكلها المغربيّ، الَّذِي رفض ويرفض الانفصال عنها بالرغم من كلّ المتغيرات الحاصلة.
سبتة اليوم ليست هي سبتة الأمس، بسبتة اليوم هرجٌ ومرجٌ وخلقٌ من الناس بعضهم لا تتجاوز معرفته بالأرض الَّتِي يقيم عليها إلا بعددِ السنوات الَّتِي وُجِدَ بها، والبعض الآخر يرى فيها تلك المدينة التائهة الَّتِي عبث بها الزمان ومحى عنها ملامح من أصالتها، محى عنها بصمة أبو الحسن الشاري والقاضي عياض وابن رشيد وابن الشاط وأسرة آل العزفي، الَّتِي أحيا الله بها رسوم التحديث بتلك المدينة العالمة المجاهدة كما يصفها المؤرخون.
بل إنَّ المتجوّل اليوم في المدينة يلتمس فيها ما يلتمس من باقي المدن الأندلسيّة، الَّتِي احتفظت ببعض أثرها العربي فتجد بسبتة شيئًا من الآثار المغربية متفرقةً هنا وهناك ومعالم تدلّ على أن القوم فعلًا قد عمّروا المدينة فكرًا وحضارةً وتشييدًا، وبأنّ المسار الطويل الَّذِي قطعته المدينة لم تستطع فيه تجاوز عقدة الهُوية المغربيّة الضاربة في القدم بكلّ مناحي المدينة، بل إن أغلب المؤرخين حين يبادرون إلى النبش في أصالة المدينة منذ احتلالها البرتغاليّ، وتسليمها للإسبان وإلى يومنا هَذَا، يتذكّرون جيدًا استماتة المغاربة حول مدينتهم والدفاع عنها بكلّ الوسائل باعتبارها جزءًا لا ينفك عن المغرب علمًا وفكرًا وأدبًا وعقيدةً ومنهجًا.
وبالرجوع إلى السجل التاريخيّ للمدينة نقف على حقيقة سبتة العالمة، الَّتِي احتضنت علماء وأدباء وفقهاء أثَّروا بشكل كبير في بناء المدينة، بحيث ارتبطت أسماؤهم بذكرها في مختلف كتب التراجم والطبقات، بل إنّ بعضهم لا يكتمل نسبه إلا بإلحاق كلمة السبتي المغربي.
معالم وأحداث لها أصلٌ وامتدادٌ تاريخيٌّ عريقٌ، وجب استحضاره وعدم التغافل عنه بدعوى التقادم، على الأجيال اليوم أن تعي حقيقة المدينة التاريخيّة وأن تنقل هَذِهِ الحقيقة إلى باقي الأقطار الأخرى، الَّتِي لا تفتح عينها على المدينة إلا في وقت الأزمات؛ أملًا في أن يتعرّف على المدينة من يجهل صبغتها القديمة، الَّتِي استُبدلت بصبغة جديدة لها ارتباطاتٌ محدودةٌ لم ولن تستطيع محو الآثار الموزعة في عمق مدينة سبتة العالمة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
