رياضة
المشي بين هواته و«هواة الپلاكات»

هوايات جمع الطَّوابع البريديّة والتُّحف والعملات وعلب الثقاب…إلخ، هي هوايات تقليديّة أصيلة، ما زالت تكافح ما حمله الزمن من تغيرات قيمية ومن اهتمامات وسلوكيات جديدة مع جيل برزت معه هوايات جديدة، مثل هواية المشي الطويل، وهواية صعود القمم، الَّتِي شوهتها –خلال المرحلة الأخيرة– سلوكيات دخيلة، جعلتها تتّخذ شكلًا مختلفًا وغريبًا يحيد بها عن أصولها. وقد يكون ذلك لأسباب متباينةٍ ومتشابكةٍ، وقفنا على بعض منها في جولاتنا ودردشاتنا، وكنا نُفضّل عدم التداول فيها، لكن للأسف الموجة عاتية عالية.
نحن اليوم في بليونش، مُتوجّهين صوب قمة جبل موسى –حفظه الله– فجأة نجد حالنا وكأنّه يوم «العمارة د جبل موسى» أو موسم الصعود لجبل موسى أو محج جبل موسى… مشاهد لم أرصدها خلال زياراتي العديدة والمتكرّرة السابقة لمحمية بليونش، إنّه يوم استثنائي وغير مسبوق، بحسب ما أكَّده بعض أبناء المنطقة، فقد اكتظّ مسار قمة جبل موسى بصفٍ طويلٍ من هواة المشي، حتّى بدا مثل (نَيْسَبِ نمل). دردشنا مع بعض المشاة، وتسرَّبت لآذاننا أصواتٌ من حوارات البعض الآخر، فتيقنا أنَّ زوّار الجبل اليوم ليسوا كزوّاره بالأمس، فكثير منهم من هواة النسخة المتحوّرة لهوايتي المشي الطويل والترحال، ذلك أنَّ التقاط صورةٍ فوتوغرافيّةٍ أو (سيلفي) مع اللوحة بالقمة هو أقصى ما يسعى إليه أغلبهم، أمَّا إمتاع الذات واستكشاف جمال المنطقة والتدبر في ملكوت الله… كل ذلك لا يعرفون إليه سبيلًا.
بادر مؤخرًا عددٌ من الإخوة، وضحَّوا بمالهم وجهدهم ووقتهم وصحتهم، وحمَّلوا على عاتقهم وأكتافهم أهدافًا نبيلةً، لا يبتغون منها سوى التَّعريف بالجبل، والمساهمة في التنمية المحلية عبر الترويج للدواوير المجاورة له، فنصبوا في عدة قمم بمناطق الشمال لوحاتٍ تعريفيّةً تحمل اسم الجبل وطول ارتفاعه. غير أنّ هَذِهِ المبادرة النبيلة تحوّل مغزاها، مع بعض الهواة الجدد للمشي، إلى ظاهرة ملاحقة هَذِهِ اللوحات والتقاط صورٍ فوتوغرافيّةٍ معها، والتّلهُّف في عدِّ وتعداد القمم الَّتِي تمّت زيارتها والافتخار بذلك والتنافس فيه. وإن كنا لا ننكر أن ذلك يبقى في الأصل حقًا مشروعًا لهم، فإنَّنا مع ذلك نُقدّم ملاحظة حول سلوكهم غير المحمود، خاصّةً حين يتعلق الأمر بما يخلفونه من آثار سلبية في مسالكهم وعلى القمم. وإليكم أمثلة لبعض هَذِهِ السلوكيات المشينة، والَّتِي رصدنها بخرجة جبل موسى:
- عدم الامتثال لأعراف هواية المشي وتسلق الجبال: اللباس، المعرفة بالجبل، الاستعانة بالمرشدين الجبليين.
- الغاية هي فقط الوصول للقمة والتقاط الصورة مع اللوحة، حتّى أنَّ إحداهن قالت (إذا ما وصالتشي وما تصووارتشي كنت نبقى ناعسة فالدار).
- تشغيل الموسيقى العالية في أثناء المشي.
- رمي الأزبال في أثناء المشي وفي القمة بجانب المسجد المعلمة Mezquita بل بداخله أيضا.
- طهي الطاجين داخل المتعبد المبارك «معلمة القمة» المهدد بالسقوط.
- لعب البارتشي في القمة.
- تدخين المخدرات «الدجوينطات».
ونعتقد أنَّ هَذِهِ السلوكيات وليدة الإقبال المتزايد من طرف من هبّ ودبّ، خلال السنوات الأخيرة، على رياضة المشي الطويل وصعود القمم، والَّذِي تسبَّب فيه التداول الاعلامي المتكرر، وتقاسم صور وفيديوهات حول الرحلات ولوحات القمم بمواقع التواصل، وكذا استعمال وكالات الإشهار لصور وفيديوهات هواة المشي في إعلاناتها وحملاتها الترويجيّة، وأيضا وجود محلات تجارية متخصّصة في الرياضات الجبلية، ثم تناسل عدد من الهيئات والمجموعات الفايسبوكية الربحيّة، الَّتِي تستهدف هَؤُلَاءِ الهواة وتستقطبهم، عبر حيل دعائية متنوعة. وسأتوقف معكم قليلًا عند هَذَا السبب الأخير؛ لأنّنا نعتبره من العوامل الأساسيّة الَّتِي تساهم في تردّي هواية المشي. فمِن بين هَذِهِ الحيل الدعائية الترويجيّة الَّتِي تلجأ إليها بعض المجموعات الفايسبوكيّة الربحيّة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
عرض أجمل صور وفيديوهات الرحلات مرفقة ببرنامج الخرجة، ويدرج التصوير من أهم محاور البرنامج، إذ نجد منشور إعلان الرحلة يتضمّن عبارات من قبيل: (التقاط الصور خلال المسار- التقاط الصور في القمة- التقاط الصور مع اللوحة التعريفية بالقمة- يرافقكم مصورٌ محترفٌ خلال الرحلة…) وغير ذلك من العبارات الَّتِي لا تخاطب في «الزبون» سوى رغبته في نيل إعجابات الأصدقاء الفايسبوكيّين والواتسابيّين والإنستغراميّين. وهكذا تحوّلت وظيفة الصورة من أداة لتوثيق الذكرى واللحظات الجميلة إلى معيار لنجاح الخرجة أو فشلها، فإذا تمّ الوصول إلى القمة والتقطت صورة جميلة هناك، فالخرجة ناجحة وإلا فلا، دون أي اكتراث لما يكون قد تسبب في عدم الوصول (تغيرات مفاجئة في أحوال الطقس، صعوبة المسار، تفاوت المستوى البدني للمشائين…إلخ).
إن هَذَا التهافت نحو التقاط الصور، خصوصًا مع لوحات القمم Placas، جعل بعض الهواة الجدد أو زبناء الوكالات الفايسبوكيّة الربحية يمارسون –غالبا دون قصد– بعض التصرفات الدخيلة على هواية المشي، فتحوّلت معهم إلى موضة وموجة. إنَّ المشاء في أصله نظيف الفكر والسلوك والنظر، لا يخلف وراءه إلا الأثر الطيب، لكن بعضًا من هَؤُلَاءِ الجدد بدلا من المشي يخبطون خبط عشواء. وهو الخبط الَّذِي عايناه في سلوكهم في الكثير من المناسبات، خاصة في خرجتنا لبليونش أو ما سمّيناه مجازًا «يوم الحج إلى قمة جبل موسى».
كان هَذَا بعضًا من السلوكيات الرديئة (الخبط) الَّتِي رصدناها يوم حج «الحجيج» إلى جبل موسى، أكيد أنّها ممارسات تتكرّر في كثيرٍ من الأمكنة والمسارات والجولات والقمم الأخرى، لدرجة أنَّ الساكنة المحلية أصبحت في كثيرٍ من الأحيان تمتعض من وجود المشائين، (وهي للأسف لا يمكنها التمييز بين النوع الأصيل منهم وبين النوع المتحوّر) وغيَّرت من تعاملها مع المشائين بسبب سلوكياتهم.
أملنا أن تعود الهواية إلى أصلها، فالمشاء كما قلنا لا يترك إلا الأثر الطيب، لا يسبّ ولا ينهب ولا يرمي الأزبال، ولا يخرب الآثار التاريخيّة، ويحترم ساكنة المنطقة وأعرافها، ينبغي على المشاء أن يكون مصلحًا في ممشاه، في أسرته ومجتمعه وأن يحترم الحجر والشجر والبشر.
