القانون والناس
التكييف القانوني للجرائم بين النص والتنصيص تتمة

فهل يمكن إنزال حكم القانون على واقعة معينة لغرض حسمها؟! أم أنَّ الأمر الَّذِي يعتمد عليه القاضي لتكييف النِّزاع، هي أدوات الصِّياغة القانونيّة ووقائع النِّزاع والقاعدة القانونيّة؟!
إن كان عرض الواقعة على النِّيابة العامة، بعد انتهاء التَّحقيقات والتَّحرّيات، يتطلّبُ منها تكييف الواقعة المطروحة ووصفها طبقًا لنصوص القانون المعمول به، مما يتّضح أهمية التَّكييف الصَّحيح لواقعة الدَّعوى؛ لأنّ التَّكييف غير الصَّحيح يُؤدّى إلى خطأ في تطبيق القانون، الأمر الَّذِي يبرهن على أهمية التَّكييف بالنِّسبة لضبّاط الشُّرطة وقاضي التَّحقيق والقاضي المُقرّر والخصوم في الدَّعوى الجنائية.
الأمر الَّذِي يستدعي التَّكييف الصَّحيح للنَّوازل لتعين وصف الفعل، الَّذِي ارتكبه المتهم؛ لمعرفة ما إذا كان يُعدُّ من قبيل الجنح أو الجنايات أو مخالفة. فالتَّكييف إذن: هو تحليل للوقائع والتَّصرّفات القانونية، تمهيدًا لإعطائها وصفها الحقّ ووضعها في المكان الملائم من بين التَّقسيمات السَّائدة في فرع مُعيّن من فروع القانون.
أهمية التَّكييف في مجال القانون الجنائي بوصفة عملية أوليّة ولازمة لإخضاع التَّصرّفات أو الواقعة القانونيّة محل النِّزاع للنَّصّ القانونيّ، الَّذِي يحكم هَذَا التَّصرف أو تلك الواقعة يبقى مسألةً قانونيّةً تخضع دائمًا لرقابة محكمة النَّقض.
فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ، وحسب مقتضيات المبادئ الأساسية للقانون الجنائي الفصل (3) ينص على أنّه لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يُعدُّ جريمة بصريح القانون، ولا معاقبته بعقوبات لم يُقرّرها القانون، وبالتَّالي يمكن القول إنّ القدرة على التَّكييف السَّليم في نطاق القانون، هي الأساس الَّذِي لا غنى عنه لحسن تطبيق ما يتضمّنه كلّ فرع من القانون.
إن كان ثبوت الوقائع وصحة العلاقة السَّببيّة ثابتة في حقّ المتّهم، فهو العلاقة بين الوقائع والقانون وينتهي بمنح الوقائع اسمًا قانونيًّا ينطوي في القانون الجنائي على نتيجة ملازمة هي تطبيق العقوبة المنصوص عليها بهَذَا الاسم، ما يعد معه التَّكييف سليمًا ويُشكّل من النَّاحية النَّفسية حكمًا حقيقيًا يُمكن اعتباره عصب الحكم القضائي الصَّادر بلا شكّ، وتتوقّف صحّة الاسم القانوني الممنوح للوقائع على الإمساك المنضبط للعلاقة، الَّتِي تربط هَذِهِ الوقائع بقواعد قانون العقوبات، الَّتِي يمكن ردُّها إلى أصل نصّ القانون واجب التَّطبيق عليها، ويكون في نطاق التَّقسيم الثُّلاثي للجرائم (أي جنايات وجنح ومخالفات) دون غيره من بين هَذِهِ الأنواع الثَّلاثة، بما يترتب على ذلك من آثار ضخمة في قانون العقوبات، فضلًا عن الإجراءات الجنائيّة، الَّتِي تظهر آثار التَّكييف بوجه خاصّ.
مما يستشف منه، أنّ تكييف الوقائع الَّتِي تقوم عليها الجريمة يمكن اعتبارها غير مشروعة في نظر قانون العقوبات، أي أنّها ذات صفة إجراميّة. مما يستدعي إنزالا قانونيّا إلزاميًا للقاضي، يتفهّم الواقعة ويُحدّد عناصرها ويتفهّم القانون في الواقع ويُحدّد عناصره، ويطبق أحدهما على الآخر ويصف الواقعة وصفًا قانونيًّا. على أن تكون نقطة البدء في التَّكييف من الأدنى إلى الأعلى، واعتماد قرينة البراءة هي الأصل وما دونها هو الاستثناء حيث يفترض فهم القانون في الواقع، وهَذَا لا يتحقّق إلا بفهم الواقعة أوّلاً وتفعيل السُّلطة التَّقديرية للقاضي بكلّ نازلة معروضة أمام أنظاره.
ومن هَذَا يتبيّن أنّ مُكوّنات النَّموذج القانوني للجريمة، تضمّ كلًا من أركان الجريمة وعناصرها، إذ لا بُدَّ من اقتران السُّلوك الإجرامي المرتكب مع النِّية الإجراميّة؛ لأنّهما ضروريان لقيام الشَّرعية الجزائية إذ يجب أن يضم نصّ التَّجريم والعقاب كلًا من ركني الجريمة الماديّ والمعنويّ.
فهل يمكن أن نعتبر كلّ الأحكام مشتملاتها تتمثّل في وجود الرُّكن المادي، والنَّتيجة الإجرامية أي التَّغيير، الَّذِي يحصل في العالم الخارجي كأثر السُّلوك الإجرامي والرُّكن القانونيّ، الَّذِي يتمثّل في العدوان الَّذِي ينال مصلحة أو حقّ شمله القانون بالحماية الجنائيّة. وتتحقّق الصِّلة بين السُّلوك الإجرامي والنَّتيجة الإجراميّة بمدلولها المادي؛ لأنّ هَذِهِ الرَّابطة هي السَّبيل لإسناد النَّتيجة إلى الفعل بالعلاقة السَّببية أم أنّ الواقع يبقى محاولة لتزيل محتويات القانون ومبادئه للمحافظة على توازن المجتمع وحفظ الحقّ؟
