ثقافة
المهرجانات الصيفية بطنجة.. دعم بلا رؤية و”قطيع سياسي” يكرّس الرداءة
تعيش مدينة طنجة في كل موسم صيفي على إيقاع مهرجانات متعدّدة، تتوّزع بين ما يوصف بـ”الثقافي” و”الفني” و”السياحي”. غير أنّ المتأمل في المشهد يقف على واقع مرتبك يطرح أكثر من سؤال حول جدوى هذا السيل من التظاهرات، التي تحوّلت من فضاء للإبداع والإشعاع إلى عبء على المدينة وساكنتها، بسبب غياب الرؤية الاستراتيجيَّة لدى المؤسسات المنتخبة والوزارة الوصيَّة على الثقافة.
- دعم مالي غزير ومردوديَّة هزيلة
تضخ الجماعة الترابيَّة لطنجة والمجالس المنتخبة، إلى جانب وزارة الثقافة، مبالغ ماليَّة مهمّة في هذه المهرجانات، غير أنّ المحصلة تبقى ضعيفة على جميع المستويات. فباستثناء بعض المبادرات المحسوبة على رؤوس الأصابع، تتّسم أغلب المهرجانات بسطحيَّة في المحتوى، وغياب برمجة فنيَّة قادرة على استقطاب جمهور واسع أو ترك بصمة ثقافيَّة دائمة.
ويشير متتبّعون للشأن المحلي إلى أنّ المشكل لا يكمن في قيمة الدعم المالي بقدر ما يتجسد في طريقة تدبيره، إذ توزع المنح على جمعيات ومهرجانات “مقربة” من بعض المنتخبين أو من دوائر القرار، في غياب تام لمعايير التقييم والشفافيَّة.
- مهرجانات تُكرّس سياسة “القطيع السياسي”
من زاويَّة أخرى، تحوَّلت المهرجانات الصيفيَّة إلى ورقة سياسيَّة في يد بعض الفاعلين، الذين يستغلونها لبسط نفوذهم الانتخابي أكثر مما يحرصون على إنجاحها فنيًّا وثقافيًّا. ويذهب بعض النقاد إلى وصف هذا المشهد بـ”سياسة القطيع السياسي”، إذ يلهث المنتخبون خلف تظاهرات شكليَّة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مساءلة مردوديتها على التنميَّة المحليَّة أو على إشعاع طنجة كعاصمة متوسطيَّة.
فالملاحظ أن تكرار نفس الوجوه الفنيَّة، ونفس الأنماط من الحفلات، يعكس غياب أي تفكير استراتيجي في جعل الثقافة أداة للنهوض بالمدينة وصورتها، ويكرس، في المقابل، هيمنة حسابات ضيقة تحجب أي نفس إبداعي حقيقي.
- غياب التنسيق والرؤية الاستراتيجيَّة
أحد أبرز أوجه الخلل يكمن في غياب التنسيق بين وزارة الثقافة والمؤسسات المنتخبة. فكل طرف يشتغل وفق أجندته الخاصة، وغالبًا ما تتقاطع المصالح عند نقطة واحدة: إرضاء “الزبائن السياسيين” وتوزيع الدعم في اتِّجاهات محسوبة. أما النتيجة فهي مهرجانات تفتقر للهُويَّة، تتشابه في الشكل وتكرر نفس المضامين سنة تلو أخرى.
في الوقت الذي كان من الممكن أن تتحول المهرجانات إلى رافعة حقيقيَّة لتعزيز السياحة الثقافيَّة بطنجة، وتثمين الموروث المحلي من موسيقى وأدب وتراث، تُستنزف الميزانيات العموميَّة في عروض متواضعة لا ترقى إلى مستوى تطلعات الجمهور ولا إلى سمعة المدينة.
- صوت المثقفين والفنانين مغيّب
عدد من المثقفين والفنانين المحليين يشتكون من تهميشهم في برمجة هذه المهرجانات، إذ غالبًا ما يتم استقدام أسماء خارجيَّة بعقود مكلفة، في حين يظل المبدع الطنجاوي بعيدًا عن دائرة الاستفادة.
ما يكرس الإحساس بالغبن لدى شريحة واسعة من الفاعلين الثقافيين، ويطرح علامات استفهام حول غاية هذه التظاهرات: هل هي للترويج لثقافة المدينة أم لملء جيوب بعض الوسطاء؟
- أثر اقتصادي ضعيف
رغم ما يروَّج من أن المهرجانات تُسهم في إنعاش الاقتصاد المحلي عبر تنشيط السياحة الداخليَّة والخارجيَّة، فإنّ الواقع يظهر محدوديَّة هذا الأثر. فغياب التنظيم المحكم والتسويق الجيد يجعل أغلب التظاهرات تمرُّ دون أن تُحقّق عائدًا ملموسًا على قطاع الفنادق أو على الحرف والخدمات المرتبطة. بل إن بعض المهرجانات تتحوَّل إلى عبء لوجستي على المدينة، بالنظر للاكتظاظ الذي تحدثه، دون أن تترك أثرًا إيجابيًّا في الاقتصاد المحلي.
- الحاجة إلى مراجعة شاملة
الواضح اليوم أن طنجة في حاجة إلى مراجعة شاملة لسياسة دعم المهرجانات. فلا معنى لاستمرار هدر المال العام في تظاهرات شكليَّة لا مردوديَّة لها. المطلوب هو وضع دفتر تحملات واضح، يربط الدعم بالنتائج، ويعتمد معايير شفافة في اختيار الجمعيات والمشروعات الثقافيَّة المستفيدة.
كما أن انخراط الفاعلين الثقافيين الحقيقيين، من كتّاب وفنانين وباحثين، يظل شرطا أساسيًّا لإعادة الاعتبار للمهرجانات، ومنحها عمقًا فكريًّا وجماليًّا يتجاوز الاستهلاك السريع.
- طنجة بين الإشعاع والرداءة
مدينة بحجم طنجة، بتاريخها الثقافي المتنوّع وبموقعها الاستراتيجي كبوابة للمغرب على أوروبا، لا تستحق أن تُختزل مهرجاناتها في حفلات تجاريَّة سطحيَّة. فالإشعاع الثقافي الحقيقي يحتاج إلى رؤية بعيدة المدى، تُزاوج بين الأصالة والمعاصرة، وتمنح للأجيال الجديدة من الفنانين فرصة للتعبير عن أنفسهم. أما استمرار الوضع الحالي، فلا يعني سوى تكريس الرداءة، وإبقاء المهرجانات رهينة الحسابات السياسيَّة الضيقة، في مشهد يُسيء لصورة المدينة أكثر مما يخدمها.


