ثقافة
طنجة التاريخية والحاجة لتصاميم التهيئة والتشوير الثقافي

عرفت مدينة طنجة في السنوات الأخيرة وتيرةً تنمويّةً مُتسارعةً، خاصّةً بعد إطلاق عددٍ من الأوراش الكبرى والمشاريع المتواصلة، وهو ما مكن المدينة -بعد عقود من التهميش- من التربع على ريادة الجهة وممارسة دور متعاظم في التنمية الاقتصادية للمغرب، عبر تعزيز تنافسيتها وإشعاعها وقدرتها على استقطاب رؤوس الأموال والأشخاص والخِدْمات.
ورغم توجّه طنجة نحو تطوير البُنى التحتيّة الصناعيّة والاقتصاديّة، والطفرة الَّتِي عرفتها المدينة منذ 2012 مع انطلاق نشاط مصانع رونو، برزت مؤشرات على أنَّ المدينة ستعرف انفجارًا ديموغرافيًّا هائلًا واكتساحًا إسمنتيًّا كبيرًا، وبالتالي لم يكن أكثر المتفائلين يتوقّع أن تبرز بطنجة هَذِهِ المباني الشاهقة والشوارع شاسعة في أحسن الأحوال، غير أنَّ طنجة استطاعت نسبيًّا أن تكسب في جانب منها مُعادلة النمو الديموغرافيّ الهائل والتوسّع العمراني إلى جانب الترميم والتأهيل.
وكان برنامج ترميم وإعادة تأهيل المدينة العتيقة لطنجة قد خلَّف ارتياحًا معتبرًا لدى الرأي العام المحلي، خاصّةً مع ما تحقّق من أهدافه كترميم المآثر التاريخيَّة وإعادة تأهيل نسيجها العمراني، وتحسين حركة السير والجولان بفضاءاتها، وتعزيز إحداث فرص الشغل للشباب والحرفيّين ومهنيي قطاع السياحة.
وذلك بعد أن شكَّل توسع الأنشطة الاقتصادية -السياحية والتجارية- بمحيط ميناء طنجة المدينة، على حساب البنايات السكنية داخل المدينة العتيقة عاملًا مُساهمًا في تدهور المجال المبني لهَذِهِ الأخيرة، خاصّةً بعد أن أصبحت المئات من البنايات العتيقة عبارة عن خرب أو آيلة للسقوط. وقد أفضى كل ذلك إلى تراجع ديموغرافي ملموسٍ زاد من تعميقه، ظواهر كراء الغرف بأثمنة زهيدةٍ من جهة، وجهة أخرى إقبال الأجانب على شراء هَذِهِ الأبنية المتهالكة من أصحابها الَّذِينَ يُصنّف كثير منهم ضمن الفئة الفقيرة.
وتعرف عاصمة البوغاز بين الفينة والأخرى نقاشاتٍ وأحيانا وقفاتٍ احتجاجيّةً، تنظمها بعض الإطارات الجمعوية المهتمة بهَذَا الملف، من قصر بريديكاريس وحدائق المندوبية ومسرح سيرفانتيس، مرورًا بنافورة رياض الإنكليز، وانتهاءً بسراديب المدينة العتيقة ومقبرة الكلاب.
كل هَذَا يبرز أنَّ حاجة مدينة طنجة لتنظيم وتأطير الفضاءات التاريخية والثقافية ومحيطها بمخططات تهيئة ذات بُعد ثقافي، يتمّ بموجبها تحديد ضوابط واضحة لأشغال البناء والإصلاح بجوار البنايات والمواقع المصنفة، خاصّةً بعد تغول ما يسمى بـ«لوبي العقار» الَّذِي يُعبّر عن مصالح اقتصادية منتظمة، لها حضور في عددٍ من مجالات العقار والتعمير، وتهيمن على قطاع وجد في الأصل من أجل تلبية متطلبات البلاد والعباد من عقارات للسكن والعمل وللاستثمار والادخار أيضا، حيث إنَّ ممارسات هَذِهِ الفئة لم تستثنَ حتى المناطق الغابوية والخضراء، ولن تستثني أيضًا المآثر وما تبقى من الذاكرة الطنجاوية والوطنية، في ظل النقص الكبير الَّذِي تعرفه على مستوى التشوير الثقافي والأثري.
الجدير بالذكر، أنّه سبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن أصدر رأيه في الموضوع، فأكّد أنه «على الرغم من التقدم الَّذِي تم إحرازه، فإن التراث الثقافي ببلادنا لم يتحول بعد إلى ثروة مادية من أجل جعله محركا حقيقيا للتنمية. في هَذَا الصدد، لا يحظى التراث والإرث الثقافيان المادي وغير المادي بتثمين كافٍ وتظلّ الوسائل المعبأة لتطويرهما محدودة جدا. علاوة على ذلك، كانت مسألة التراث تُتناول دائمًا بصورة معزولَة، ووَفْق حكامة مُجَزَّأَة. وهناك عدة أوجه قصور تفسر هَذِهِ الوضعية، لا سيَّما ضعف الجهود في مجال الجرد والتصنيف».
